تدوينات تونسية

تونس الثورة وما بعدها: في حيرة محنة السياسة

نور الدين الختروشي
يبدو أن أزمة السياسة في تونس ما بعد الثورة تتعمق مع مرور السنوات وتتوسع وتتعدد عناوينها ومفرداتها، ولعل يأس الجمهور من السياسيين وترذيلهم والعزوف عن الاهتمام بالشأن العام ومقاطعة المحطات الانتخابية ليست سوى تأكيدا لحجم الازمة التي تستغرق المجال السياسي الوطني في لحظته البينية العائمة اليوم وهنا.
أكثر المقاربات لهذه الازمة المتواصلة بل والممتدة تركز على الصورة التي صنعها الفاعلون السياسيون الجدد على أنفسهم وعلى الفضاء السياسي عموما وهي صورة السياسي المزايد بألام الناس، او الانتهازي اللاهث وراء المناصب، او الفاسد والمرتزق والمستغل لموقعه للاستثراء، او ببساطة السياسي العاجز وعديم الكفاءه والقدرة على تغيير الحال الى ما هو أفضل.
هذه وغيرها من محددات الصورة التي انطبعت لدى الرأي العام بفعل المتابعة اليومية لخطابه وأدائه تكثف في الحقيقة محنة عميقة تتصل بثالوث السياسة، والسياسي، والدولة، وهي محنة من زاوية نظر كوني تتجاوز في مقاربتنا المجال الوطني وتفاصيل وحيثيات مآله بعد الثورة، لتلامس طبيعة الازمة الكونية للسياسة في عصر العولمة والثورة الاتصالية او زمن ما بعد الدولة الوطنية.
هيكل هذا التحليل يؤطر المقاربة من زاوية الاقرار بالمقدمة الكونية لأزمة السياسة المعممة على الفضاء الانساني بعد خروج الدولة من السوق ومحاولة تفسيخ شرطها التاريخي بتجاوز حد الدولة الامة، كما تقدمها النيوليبرالية المهيمنة اليوم على العالم هذا أولا، وثانيا كأزمة نخب سياسية أدارت المرحلة وانكشف حجم عجزها على القيام على واجب الأمل أو منتوج الثورة اليتيم، وثالثا كأزمة دولة انتزع رأسها من وحل ثقافة ما قبل العقد، وبقي جسدها في سحيق قاعه. وقبل ان نغامر بتفكيك عناصر ثالوث الأزمة المركب (السياسة والسياسي والدولة) نفضل ان نقف منهجيا عن مقدمات التحول الذي شهدته ثورتنا من أفق الامل الى اخاديد اليأس.
1. يوم استعادت السياسة نبلها:
يوم 14 جانفي ستؤرخ له السياسة في تونس على إعتباره يومها، ويومها لوحدها، فقد حققت السياسة في الاشهر التي سبقت الانتخابات التأسيسية حلمها في ان تصبح مركز الوجود الوطني باستعادتها ليطوبيا حلم الشعب في التحول من محكوم الى حاكم. فالجمهور الذي فجر الثورة أستعاد لأشهر مهمة تقرير المصير العام، وانتفت او كادت حدود الفصل بين المجتمع السياسي والمدني، واستبعدت بعفوية تاريخية (مرحة) كل وسائط التواصل والتأثير والتأثر بين مجتمع الحكم ومجتمع المحكومين.
كانت يومها السياسة تتلحف رداء القيمة، وتتجمل بزينة الحلم، وكان فاعلها الأساسي رجل الشارع الذي استمتع عبر الانخراط فيها بطعمها النضالي الشهي والمرح والمريح.
فقد كانت السنة السياسبة الاولى التي أعقبت الثورة سنة نضالية بامتياز كما يشهد من شهد ملحمة القصبة 1 والقصبة 2، وجوهر المعنى في الملحمة كان اختراقا لإحتكار مجتمع النخبة لصفة المناضل وإشاعتها على “الجميع”، بل شهد العالم بدهشة تجاوز حاجة التونسيين لرجل الدولة والمبادرة عشية سقوط النظام بالقيام على وظائفها الامنية وحتى التسييرية.
كرّم التاريخ يومها السياسة ومجدها بتعميم القدرة على ممارستها، وعند تلك النقطة يكمن استثناء العلاقة بين السياسة والثورة. فالمجال السياسي في حاجة حيوية وخالدة لمركز كي يتشكل، واستثناءا عند لحظة الثورة تفقد السياسة “المركز” وتتمدد لتشمل الفضاء العام كاملا فتحوله الى “الكل سياسة”. ولعله من زاوية الرؤية هذه تحديدا نستطيع ان نسخر من المشككين في أن ما وقع ذات يوم من 14 يناير 2011 هو ثورة بكامل محمولها الرمزي والتاريخي والسياسي.
عاشت تونس ثورتها بين لحظة هروب حاكمها ولحظة انتخاب المجلس التأسيسي، وعاشت السياسة في تلك الاشهر احتفالية زاوج القيمة بالمصلحة، وتمتع التاريخ السياسي الوطني بمحفل نبل، راقصت فيه السياسة براءة الخير العام.
الثورة التي فجرها صدفة احتراق جسد بائع ادهشتنا بتدمير ماحق لحاجة الثورات الى الطليعة الثورية، والى لعبة الترميز المخاتلة التي ثبتتها الثورات السابقة كحاجة حيوية وشرط قبلي من شروط قيامها ونجاحها. ثورة من دون رموز ثورية يعني ثورة من دون برنامج ثوري رؤية وتخطيطا وتنفيذا يعني بالنهاية استحالة تاريخية، تلك هي القاعدة التي تجاوزتها الثورة التونسية، وناورت عليها بأناقة لم تستوفي حظها من التأمل، رغم حجم الدهشة التي اندلقت من يومياتها.
استثناءا تحول الفضاء المجتمعي العام الى حيز سياسي مكثف لم تمارس فيه استراتجيات السلطة الرمزية خطابا وممارسة من اجل التموقع في لعبة السلطة والقوة والتحكم في المصير الوطني. ولكن من أجل “الخير العام” المعمم على أهداب حلم الجمهور بالمدينة الفاضلة. وقد أخطأ من قارب تلك المرحلة بغير أدوات الاستيطيقا او علم الجمال. فقد أستعادت السياسة كل أدوات زينتها وأشرقت شموس جمالها على سماء الخضراء بيقضة تفائل افلاطوني قديم لنسبة السياسة الى شجرة النبل.
المجال السياسي مثلما يشدد بيار بوردييه مجال استبعاد وتقسيم حاد للمواقع والادوار وديناميكيته مسار فرز متدفق وسائل لاختيار الاقدر على التأثير في الرأي العام والتحكم في القرار الرسمي. وكم سيكون من الصعب على أدوات تحليل علم اجتماع السياسة ان تستوعب كيف “تمكنت” الحالة الثورية التونسية من زحزحة ثوابت الهياكل العامة التي حاولت العلوم السياسية حصر المعطى السياسي في حدودها. فقد اتسع الحيز السياسي الوطني للجماهير التي كفت عن ان تكون جمهورا متفرجا على مربع صناعة المصير العام ونزل “نزلاء المدارج” الى الملعب ليشاركوا في ادارة لعبة تولوا باقتدار موهوب أمر رهانها وتقعيد ضوابطها وتحديد أدواتها وتقنياتها.
يوم 23 أكتوبر 2011 سيؤرخ له التاريخ السياسي الوطني على انه كان يوم تمجيد استثنائي للسياسة، فنسبة المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي وطوابير الانتظار للأدلاء بالاصوات كانت موكبا مليونيا مهيبا لتسليم الجمهور السياسة الى النخبة.
كان حفلا للمفارقة بين حدين، حدُّ الشعور بالالم بخروج الجمهور من مربع اللعبة السياسية، وحدُّ الشعور بالنشوة بأن ذلك الانسحاب كان ممارسة للحرية والاختيار الطوعي العام في تسليم الحيز السياسي الى فكرة التمثيلية la représentation باعتبارها الاقرب الى طموح السياسة في ان تبقى بالنهاية تعبيرا عن الارادة العامة.
كان يوم الفصل بين الثوري والسياسي يوم فرح ومرح وطنيا عاما حيث غادرت تونس “الكل سياسة” منطقة الملحمة لتبدأ زمن الاستثمار فيها بالتوجه الى صندوق الاقتراع.
الناخب لم يحدد يومها اختياره على أساس البرامج المتعلقة بتصفية بقايا القديم وتحسين شروط الوجود الاجتماعي بل على قاعدة أخلاقية جوهرها الوفاء والاعتراف ببطولة المناضل في مقارعة القمع السياسي يوم كان وحيدا في الساحة زمن الاستبداد.
سلمت تونس الناخبة للجماعة السياسية الاقرب الى الاخلاق، ففازت فيها حركة النهضة، ليس لانها من دفع اكثر ضريبة الاستبداد وهذه حقيقة، بل وخاصة لأنها كانت في الوعي الشعبي الاكثر قربا من طهارة المسجد والاكثر بعدا من نجاسة السوق.
ففي لحظة الالق الثوري لا يطلب الجمهور من السياسي سوى تجسيد القيمة، وفي لحظة اعادة تأسيس معمودية النظام السياسي لا تتحرج السياسة من ان تطلب من فاعلها في ان يكون أكثر من مؤسس لبناء جديد.
ستسجل الذاكرة الوطنية أن يوم الانتخابات التأسيسية كان يوم تشييع المناضل الى مثواه الاخير، حيث طلبت منه الثورة ان يوقع شهادة تدشين الزمن السياسي الوطني الجديد لتودعه مشكورا الى أجل غير مسمى.
كان تكريم تونس المناضلة في انتخابات العهدة التأسيسية حفل تأبين السياسة للمناضل في الفضاء الوطني، فقد أعلنت الثورة نهاية حاجة الحلم العام الى النبل والشجاعة والبطولة، وبداية الحاجة الرسمية الى الحيلة والكفاءة والنجاعة. يوم تكريم المناضل كان هو نفسه يوم موته، وكم كانت محظوظة تونس المناضلة وهي تغادر في صمت على أهازيج فرح ببشرى تاريخية بشرت التونسيين ان المشاركة في صنع المصير العام أصبحت واجبا مواطنيا وليست جريمة موصوفة كما كانت في زمن الاستبداد.
تونس المناضلة قبيل الثورة كانت مشتتة بين بؤر البحث الشقي على خط ثنائية الاصلاح والتجذر. فاستنفذت الاغلبية وعلى رأسها الغنوشي. مسار بحثها عن استراتجيات فرض التعايش على نظام القمع العاري، واستنفذ المتجذرون وعلى رأسهم المرزوقي سبل إحياء الحلم البسيط بالرهان على الزمن لينتصر النور على الظلام.
محمد البوعزيزي بائع الخضار المتجول انتزع تونس المناضلة من أخدود المحاولة السياسية المناضلة في انتزاع التاريخ من قدر الاستبداد، وأهداها من دون نية وقصد وإرادة كل الثمرة، وكل المعنى، وكل الحلم في أنسنة المجال السياسي الذي تمنع في الفضاء الوطني والعربي قرونا عن أرتياد منطقة العقل.
أما الجمهور الذي أصطف يوم الانتخابات التأسيسية في طوابير بلا نهاية ليختار من يكتب العقد التدشيني لأنسنة السياسة وعقلنة آليات التحكم في المصير العام، فقد كرم فشل تونس المناضلة في حسم معركة الحرية، وكم كان الشارع نبيلا لما لم يلتفت الى معنى الفشل بقدر ما احترم قيمة الشجاعة. ولسان حاله يؤكد ان “المناضل” قد يفشل، ولكن لا ينهزم. فلم تستقبل الثورة تونس المناضلة على انها هشيم جيش منكسر، بل أحتضنتها على انها شرف الوطن المطارد بجريمة دولة الاستبداد.
كم كانت قاسية لحظة تمزق جبة المناضل على أكتاف تونس المعارضة للاستبداد يوم وضع المناضل ساقه في مجتمع الحكم، وكم كان مؤلما حد الوجع ان تسقط تونس المناضلة في أول امتحان سياسي لحظة الاعلان عن نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، حيث انتظرت منها الحاجة الوطنية أن تندرج في لحظة اجماع وطني حول كتابة وثيقة عقد الحرية والمواطنة، فإذا بها تدشن يومها النبيل بمنكر الانقسام والتهارج على البداهة.
لم يفهم ولم يتفهم رجل الشارع ان تتهارج تونس الجديدة حول بداهة التضامن والاجماع على كتابة عقد التعايش الوطني وتجديد شرعية الدولة، وكان رفض جزء كبير من المكون التاريخي والسياسي لتونس المناضلة للمشاركة في حكومة العهدة التأسيسية غير مفهوم للثورة وجمهورها الذي لم يطلب من تلك النخب أكثر من تجديد شرعية الحيز السياسي، واتمام الخطوة الاخيرة نحو زمن الحداثة السياسية.
الترويكا التي انتهى اليها مسار التفاوض لتشكيل الحكومة، كانت الادنى الاخلاقي المطلوب تاريخيا لانجاز مهمة تدشينية نبيلة في حجم كتابة دستور جديد للدولة.
في اليوم الثاني بعد تشكيل الترويكا بدأت السياسة تكتب وطنيا يوميات ازمتها على جدار مفارقة بحجم السماء بين عمق وعي وتمثل الجمهور للمضمون الاخلاقي للحظة التأسيسية، وسطحية ادراك النخب لكارثية أثار القفز والمناورة على ذلك الجوهر الاخلاقي.
(يتبع)
جريدة الرأي العام (التونسية)

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock