تدوينات تونسية

سرت وراء الجنازة منفردا

عبد اللطيف علوي
كان اليوم غائما وحزينا، لم أر السّماء يوما بذلك الحزن الرّماديّ الثّقيل، تدمع بسيول باردة في صمت وذهول. النّسوة يدفعن أقدامهنّ في الأوحال ويسلكن سبل القرية نحو كوخها القصيّ، وبمجرّد وصولهنّ تنفجر الأصوات بنواح شجيّ يكوي القلوب.
للموت في القرية طعم ولون ومهابة لا تجدها في سواها، تشعر أنّ الجنازة في كلّ بيت، وفي ذلك اليوم تحديدا، شعرت أنّ الجنازة في قلبي أنا أكثر ممّا هي في بيتها.

سرت وراء الجنازة منفردا، أحاول أن أطرد الأفكار الشّرّيرة وهي تنبت في رأسي كالطّحالب السّامّة… لماذا ماتت “خالتي الزّازية” ولم يمت “مبروك الأجنف” أو “أحمد بوريڨة”؟ أيّة عدالة في السّماء تقبض روحها البريئة الّتي لم تؤذ يوما ذبابة، وتترك من يعيش ويأكل ويشرب من لحم أخيه…
رأيت كلّ القوّادين يتسابقون إلى حمل النّعش، وهم يردّدون خلف المؤدّب ويبالغون في إظهار علامات الخشوع والورع والتّقوى، فتمنّيت أن أنتزعها منهم وأصفعهم جميعا بأوسخ فردة حذاء أجدها في طريقي ثمّ أشتم أمّهاتهم بأقذر ما سمعته في السّجن من ألفاظ ساقطة… كيف يستطيع هؤلاء أن يتحوّلوا بمثل تلك البساطة وينافقوا الله حتّى وهم في جنازة، حتّى وهم يقفون على شفا الحفرة الأخيرة ويرون أنّ ذاك هو مصيرنا جميعا مهما أمهلتنا كفّ الموت؟
كانوا جميعا يلتفتون إليّ من حين لآخر، ويتهامسون كأنّه لم يكن في الجنازة غيري، حتّى البسطاء الطّيّبون شعرت أنّهم يتحرّجون من الوقوف أو المشي إلى جانبي… صار مجرّد حضوري في الجنازة أمرا يلفت أنظار الجميع ويثير الكثير من الرّيبة والتّوجّس، طيلة الطّريق إلى المقبرة، كنت أشعر أنّ حضور بن علي وسطوته على الحاضرين، أقوى بكثير من حضور الله، فتركتهم قبل الوصول بخطوات، وانسحبت عائدا إلى “عتّوڨة” حيث تركته.
#عبد_اللطيف_علوي
#أسوار_الجنة
#سيرة_الثورة

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock