تدوينات تونسية

من أجل إيقاف الإنتحار العربي الجماعي…

بشير العبيدي
وصلني سؤال يقول صاحبه -مشكورا- :
(يرى المتشدّدون أن الدين يجب أن يكون دولة تحكم العالم، ويرى المستبيحون لحدود وشرائع الدين أن زمن الدين قد ولى وأن العالم يحتاج لتكنولوجيا لتسيره، وكل ذي عقل فارغ يقذف الدّين من أحد جوانبه، وما أكثر العقول الفارغة أو المضللة، ونسوا أو تناسوا أن الدين يصلح أن يكون لأي زمان ومكان وأن يكون دولة، وأن يكون أفرادا، وأن يكون حديثا وقديما، وأكثر ما تغافلوا عنه أنه يصب لمصلحة الكون أجمع برطبه ويبسه وهوائه وبحره وفنونه وعمرانه واقتصاده. 
فهل تتفق معي أن مشكلتنا مشكلة مكاييل؟)
أتفق معك تماما أن مشكلتنا نحن معشر المسلمين في هذا الزمان هي مشكلة فهم بالدرجة الأولى، والفهم يتطلّب إعمال الفكر لكي نتمكن من استيعاب المكاييل المختلفة، أي الأقيسة التي يتطلّبها العقل الجماعي لفهم تشابكات الأمور المعقدة.
من وجهة نظري الخاصة، ولأنني في تحاليلي لا ألتزم بأي أيديولوجيا مطلقا إلا مصلحة المسلمين العامة ومصلحة العالم الذي استخلفنا الله سبحانه فيه، أرى أن المسلمين في جميع البلدان مرّوا بمراحل صعبة جدا على الأخصّ خلال القرنين الماضيين، ونحن نعاني اليوم نتائج ثلاث كوارث متزامنة خلال المائتي سنة المنقضية :
الكارثة الأولى : كارثة الاستعمار العسكري والثقافي والقيمي، ولقد بدأت هذه الكارثة منذ احتلال مصر من طرف نابليون بونابارت سنة 1800، وما تلا ذلك من احتلال كامل العالم الإسلامي وانتهى بإسقاط دولة المسلمين التي كانت تمثل شعار وحدهم الروحية، رغم استبداد عدد من حكامها وفسادها، وهي الدولة العثمانية.
الكارثة الثانية : كارثة الاستبداد السياسي الذي حلّ محلّ الاستعمار المباشر، فقامت الشعوب بتكريس الوثنية السياسية على حكام فاسدين مفسدين، تصدوا للقيادة وهم ليسوا أهلا لها، وحكموا بإيديلوجيات مختلفة دينية وقومية واشتراكية وعلمانية، ولكن النتيجة واحدة: كانت فشل الدولة الوطنية فشلا ذريعا في تحقيق شعاراتها، ولم تنجح أي دولة عربية في الإفلات من الاستبداد باستثناء وضع هشّ في تونس، ونجحت بعض الدول الإسلامية مؤخرا مثل تركية وماليزيا وسنغفورة وإلى حد ما إندونيسيا، وما بقي من أنظمة، كلها تدور في فلك الاستبداد والفساد على اختلاف بين البلدان.
الكارثة الثالثة : كارثة العجز المقيت للمجتمعات العربية والإسلامية على تجديد نفسها وإصلاح فهمها ومراجعة تراثها ولفظ معوّقاتها بنفسها، بسبب انعدام الشّرط الأساسيّ للإصلاح وهو حريّة الفكر وما يعنيه من حريّة المبادرة. الكارثة الأخيرة هي الأعقد والأشد تأثيرا، لأن الأعداء حين رأوا الجهل والتجهيل يتم تجديده عبر المؤسسات الرسمية، أمعنوا في تسهيل مهمة الجهلة، ووصل مؤخرا إلى مواقع المسؤولية تجار السياسة وتجار الدين وتجار القيم وتجار المآسي وتصدروا المشهد بسبب انتشار جهل العوام وعزوفهم عن القراءة والتدبر، وغياب الحرية والتجويع والتركيع والأخطاء الاستراتيجية القاتلة لحاملي مشعل الإصلاح ودخولهم في سجالات خرقاء متخلفة وفتاوى زيفت الوعي وأفسدت الأولويات. ومنها هذا الصراع المرير الذي يتحدث عنه السؤال أعلاه، وهو صراع استنزاف لا ينبع من حاجة اجتماعية حقيقية، بل يوهم العوام بأنهم يدافعون عن دينهم وهم يزيدون إغراق أنفسهم في الأوهام، ويوهم العلمانيين أنهم يتقدمون بينما هم يساعدون الأعداء على مزيد تركيع وتجويع مجتمعاتهم، وهذا كله بسبب ما خلّفته النزاعات الحقودة داخل مجتمعاتنا من حروب وهمية، وقضايا جانبية، ومسائل سفسطائية، لا يوجد لها أثر عملي إطلاقا، لكنّها استنزفت جميع الطاقات.
هذه هي في نظري البسيط أهم الكوارث التي أدت إلى ظاهرة فريدة في تاريخنا الإسلامي، عبر ما أسمّيه: بالتسيّس الصفري والتدين الطهري: جميع القوى، من دون أي استثناء لكن بدرجة مسؤولية متفاوتة – ساهمت في تركيع الأمة عبر التناحر الصفري ونشر فكر الاستئصال، الذي هو مناقض تماما للفكر الذي جاء به القرآن والتجربة النبوية التي تلته.
فالتسيّس الصفري والتدين الطهري ظهرا مع أيديلوجيات استئصالية قومجية وعلمانجية وإسلاموية، غذّتها الصراعات الدامية على الكراسي، والتدخل الأجنبي لتركيع المجتمعات ونهب ثرواتها، وكلما قويت أيديولوجيا وهددت نظام الحكم، تمّ كفاحها بنقيضها العقائدي، وهكذا راج الفكر القومجي لمحاربة الوسطية الإخوانية، ثم راج التدين الطهوري المؤدلج لمكافحة القومجية الناصرية والبعثية، وبعدها راج التدين الوهابي التلفي الحطبي الأعمى لمكافحة وصول التيارات الإخوانية إلى الحكم، والآن يعود الفكر العلماني الاستئصالي المتوحّش في لباس صهيو-عربي طائفي إماراتي سعودي، ليقذف بالأمة مجددا في أتون صراع عقيم فاسد منافق مزوّر، فقط لسحب البساط من تحت المجتمعات العربية التي ثارت في ربيعها للمطالبة بالحرية وتحقيق كرامة واحترام الإنسان…
النسخة الأخيرة تبدو كأنها جديدة وحداثية، وفي الواقع لو دقق الشباب قليلا فقط لرأوا أنها نسخة بالية متعفّنة، متخلفة، ومرقّعة، لا تمتلك فكرا، ولا نظرا، ولا رؤية، ولا مستقبل، سوى منطق العنف الأعمى وتشبيب الاستبداد وخدمة ترامب وبوتين كلّ من موقعه. الصراع المرير بين الأنظمة العربية هو صراع على خدمة الأجنبي، والتقرب من الأجنبي، والاحتماء بالأجنبي من الشعوب. والدمار السوري واليمني والعراقي والمصري كلّه بسبب رفض الأنظمة العميقة لفكرة حق الشعب في اختيار حكامه. ويلعب الإعلام دور العهر الفكري، والخنا القيمي، والتبوّل الأدبي على عقول الناس، بنشر السفاهة والسقوط والانحطاط وجعل الخنوع وجه نظر محترمة.
ولا أرى مستقبلا اليوم إلا بثورة ثقافية عارمة من المحيط إلى المحيط، والكف عن الإصغاء للمشوشين من الجهلة والملوثين بروائح النفط المتصهين، ولا تكون الثورة الثقافية إلا مع أداتها الرئيسة وهي: أمة اقرأ. عودة القراءة والتثاقف وبناء الرؤى المشتركة وتكسير الحدود الوهمية بين البلاد العربية، وتوحيد اللغة العربية وعصرنتها وتضافر الجهود بين الجميع لتخطي الصعوبات، وتأجيل الصراعات الفلسفية إلى حين تتوطّد الحريات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وإلى حين يعود القرار إلى الشعوب في تقرير نمط العيش الذي يصلح بها، بعيدا عن التجاذب الانتحاري بين دواعش العلمنة ودواعش التدين المغشوش ودواعش التدخل الأجنبي المغذي للنزاع بهدف تأبيد استنزاف النفط والغاز والطاقات الشبابية، ومنع قيام قوة استراتيجية في منطقة شاسعة لها جميع مقومات النهوض الحضاري.
أدعو الشباب خاصة إلى ترك الشعارات الجوفاء وتجنب الأدلجة، وأدعوهم إلى التحرر الفكري الشامل من قيود الماضي الأليم ومن الخضوع لأحكام الموتى من الأقدمين، والتعويل بعد الله على النفس، وإدارة مقتدرة لحق الاختلاف، وقبول التنوع، والتراضي، وتقديم التنازلات المتبادلة، والتوقف عن ادعاء حماية الدين، فالدين دواء والعلم غذاء، والتوقف عن العويل وعن عقلية الضحية وعقلية امتلاك الحقيقة. كل ذلك في نظري البسيط وهم في وهم.
وسننجح بحول الله في حلحلة الأوضاع بمثل هذه الروح الجماعية، وسيظهر القادة بعدها بشكل طبعي لكي يقودوا التغيير من منطق الشهادة على الناس ومن منطق الاستخلاف في الأرض.
✍? #بشير_العبيدي | ربيع الأول 1439 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أَمَلاً |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock