تدوينات تونسية

من وجع الماء.. جنوبُ وَحدِهِ..

نور الدين الغيلوفي
للماء وقعُ نشوة لا يعرفه غير من استفحل بهم الظمأ.. وللمطر عنوان لا يفهمه غير من عُجنت أعمارهم بانتظارٍ لا يفارقهم وتوقّعٍ لا يداخله يأس.. ولمساقط السماء علامات قلّ من عرف الاستدلال بها.. تلك معادلة الجفاف التي أخذ منها جنوبنا نصيبا وافرا حتّى بات الماء لندرته من أيّام العرب الباقية بالجنوب التونسيّ.. وحتّى صارت منازل الماء أيّاما من التاريخ.. “عام الطهمة” و”سنة الفيضانات”..
للجغرافيا حكمها في توزيع الماء على الخلق.. وقد رضينا، نحن أبناءَ الجنوب، بالجغرافيا لنا قدرا رضًا لابسه العشق المقيم.. وقنعنا بنصيبنا من الماء منها.. ولعلّ قلّة الماء عندنا قد زادت من جلاله لدينا.. ذلك معنى أن تجد قريةً لا تزال تضجّ بأنفاس أبنائها في خاصرة جبل “أخشَبَ غليظ حزيز، نباته كالإبر وأرضه ظمأى وغباره كثير وسماؤه صفراء” كجبل محمود المسعدي الذي اختار غيلان المسرحية أن يقيم سدّه عنده.. يصرّ أبناء التراب على زرع أنفاسهم في مراتع الجبال ومرابع الصحراء طوعا وكرها فيجعلون منها حياة تقاوم دواعي الفناء.. ذلك من المقاومة…
في بعض الجنوب تحضر الطبيعة بعنفوانها وتضرب بقوّة جبالًا تقاوم خذلان الزمان.. وإذا حضرت الدولة اكتفت من حضورها بمحاصرة الجبال الشامخة تضيف عنفها إلى العنفوان تطارد الإنسان وتمنعه أن يهيمَ بشموخها.. ولا تزال والدة الشهيد كمال المطماطيّ تروي سيرة الدولة فينا ولا يجفّ دمعها ينهمل بين جبال مطماطة أنهارا لا تكفي لغسل خجلنا.. دولة السهول ترعبها الجبال فتتركها للطبيعة ترسم عليها ما تشاء من علامات لها قهرٌ لا يُبقي ولا يذَرُ…
هنا ثورة.. ومن الثورة أن يغرق المسؤول ليحيا المواطن.. هذا جديد المعادلة.. وليس عبثا أن ترى على صفحات التواصل الاجتماعي ذكرا حسنا لمعتمد مطماطة ولرئيس مركز الحرس الوطنيّ بها.. وقد كانت خاتمة الرجلين غرقا شهادةً على أنّ تحوّلا عميقا يضرب في الأنحاء.. ولا تلتفتوا إلى فرح الغثاء هناك بملعب الكرة وضجيجهم بالتصفيق لحظة العثور بين أوحال مطماطة على جثّة رئيس مركز الحرس الوطني مضرَّجا بمياهه.. لقد خرج الرجل إلى الأنحاء يسأل الماء للقرى الظمأى.. فحضر الماء وغاب سائله.. ذهب الرجل يحصي حُسْنَ فِعاله بين يدي ربّه ويشهد على تفاهة حياة لا تساوي فرحة قروّي بمرأى زيتوناته تتراقص فرحا من فرط نشوتها بزيارة الماء بعد عناد مميت…
هنا بين الجبال ثورة وبين الأوحال.. فلا تسألوا إعلامَ المنبسطات عمّا يحدث بين الجبال وفي أثناء الأوحال فقصارى ما يستطيعة ضحك هستيريّ على أمر لا يُضحك وهمس ليليّ بوقائع من غدروا فهتكوا ستر غدرهم.. هؤلاء من طينة أخرى لم تعرف عناءً كبعض الأنعام بل هم أضلّ سبيلًا.. لا تطمعوا في صلاح من هؤلاء فإنّه قد قيل: لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم، ولا تعالج تأديب من لا يتأدّب…
سلام على الشهيدين..
سلامَ الماء..
“وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ”

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock