مقالات

النهضة والمضاربة في السياسة

مختار صادق

في تعليق على مقال سابق انتقدت فيه قرار حزب النهضة تزكية مرشح النداء في الإنتخابات التشريعية الجزئية بألمانيا لفت انتباهي الصديق الشيخ الهادي بريك Hedi Brik أن المقال “قابل للمعالجة بالحوار فلو تقدم صاحبه خطوة أخرى ولو في مناسبة أخرى نحو تصور تضاريس بديل أو بدائل أولية إذ أن توصيف الواقع أو الاقتصار عليه يكاد يكون جذعا عاما مشتركا”. وتفاعلا مع هذه الدعوة وتقديرا لصاحبها أحاول في هذا المقال رسم بعض الخطوط البديلة حتى لا يقتصر الكلام على النقد والتوصيف. 

في إطار تصور عام لبديل عن العلاقة القائمة بين النهضة والنداء جاء في خاتمة المقال السابق: “هل هذا يعني القطيعة مع النداء وإدخال البلاد في دوامة تفتح على المجهول وترك الساحة للإستئصاليين؟ طبعا لا. ولكن ما ابيح للضرورة السياسية يقدر بمقدارها والشعب ذكي ويفهم فلا تنازلات مجانية ولا شراكة استراتيجية مع شق من الشقوق قبل أن يميز الخبيث من الطيب ويعاقب القتلة والمجرمين لا أن نشرع القوانين لحماية السراق ونقطع شعرة معاوية مع الثورة وما بشرت به”. وبحكم عدم اطلاعي على التفاصيل وما يتبادل تحت الطاولة (وقد يكون هذا نقطة ضعف أو قوة في طرح البديل) سأكتفي بإثارة نقاط عامة أراها ضرورية في أي طرح.

بادئ ذي بدء لنضع الجانب الأخلاقي جانبا فذاك مبحث كامل له أهمية قصوى خاصة إذا كان الحزب موضوع الحديث يقدم نفسه على أساس مرجعيته الإسلامية ورصيده الأخلاقي الذي امتاز به من خلال أدبياته التي قام عليها والتربية الإسلامية التي نشأ عليها أعضاؤه ومؤسسوه. ولنكتفي هنا بالجانب السياسي العملي البحت بما يعنيه ذلك من اختيار للشركاء وتبادل للمصالح وتقدير المواقف. والسياسة في هذا الجانب هي في نظري كالمضاربة في سوق الأسهم. إذ أن عليك أولا اختيار السهم الصاعد بالبورصة ثم عليك اختيار الوقت المناسب لشراء السهم والوقت المناسب للتخلص منه وإلا فإنك ستمنى بخسارة قد تكون قاصمة لأنه لا أحد يعلم بالتدقيق متى وكيف سيطلع أو سيسقط نجم ذلك السهم! ولذلك فكل ما يستطيع تقديمه الخبراء في هذا المجال للمستثمرين هو نصائح عامة وصارمة التطبيق لا تضمن الربح على المدى القصير ولكنها أكثر ارجحية للنجاح على المدى البعيد بناء على آداء ذلك السهم في الماضي وتجربة الخبراء. ومن هذه الخطوط العامة:

أ. عدم وضع كل رأس المال (الرصيد الانتخابي) في سهم واحد (شق واحد) بل يجب التنويع في الإستثمار بوضع رأس المال في أسهم متعددة بقطاعات مختلفة ومتنوّعة (في الحكومة وخارجها) حتى يضمن المستثمر الربح في كل الحالات وإلا فإنّ الإستثمار في سهم واحد هو مقامرة خطيرة غير مضمونة النتائج قد تؤدي إلى كوارث تتراوح بين خسارة فادحة في رأس المال (هزيمة انتخابية قاسية) أو خسارة مزلزلة إثر هزة مالية تذهب بكل شئ (محرقة).

ب. وضع قانون صارم لبيع أو شراء السهم واتباع ذلك القانون في كل الحالات دون تأثر بالمردود الحيني للسهم سلبا أو إيجابا أو بحجم وسرعة المعاملات اليومية في البورصة. من ذلك مثلا أن على المستثمر أن يبيع السهم بمجرد الحصول على نسبة معينة من الأرباح وأن لا يكون “طمّاعا” يغريه الربح الحيني لأن ذلك كثيرا ما أدى إلى لدغ السوق وخسارة كل الأرباح وحتى رأس المال لاحقا.

ج. عدم الغفلة عن السوق والمضاربين بل وجب للإنتباه الدائم والإستعداد لأخد القرار بالبيع والشراء حتى وإن كان ذلك بدون ربح لتفادي خسارة أكبر.

هذه بعض الضوابط العامة التي أراها تنسحب على العمل السياسي كما تنسحب على المضاربة في سوق الأسهم. ومن هذا المنطلق أرى أن وضع كل البيض في سلة شق من شقوق النداء (حتى وإن كان صاعدا) دون غيره من بقية الشقوق أو الأحزاب الاخرى وكذلك استسهال المواقف التي قد تكون لها منافع حينية (مثل موقف مساندة مرشح النداء في الانتخابات الجزئية بألمانيا) ولكنها ستقضم من رأس مال الحزب على المدى البعيد دون التقيد بقانون صارم في التعامل مع الفرقاء السياسيين من مثل الالتزام بمقررات الهياكل المنتخبة للحزب (مجلس الشورى) وعدم ترك الحرية التامة لشخص (رئيس الحركة) أو مجموعة صغيرة من الأشخاص (مكتب تنفيذي من اختيار الرئيس) لاتخاذ مواقف مصيرية قد تكون وبالا على الحزب وعلى البلاد كما كان الحال في بداية عهد المخلوع حين أعطيت له ثقة لا يستحقها حتى قوي عوده السياسي واستتب له الأمر ثم نكص على عقبيه (وقد يكون نفس الخطأ يقع تكراره الآن مع حافظ قائد السبسي)! كذلك فإني لم أر من الحركة ليونة واستعدادا للتراجع عن مواقف سابقة حتى عند غضب القواعد بل مواصلة في نفس التمشّي. كل هذه الثغرات (انحياز لشق واحد، عدم التقيد بمقررات الهياكل الانتخابية، وعدم مراجعة المواقف) تعتبر مقامرة سياسية كبرى قد تكون نتائجها وخيمة على الجميع.

وقد يكون للمعطيات المفقودة عن أعين المتابعين وتفاصيل “الحروب” التي تجري بعيدا عن الأعين وشاشات الإعلام الموجه جزء من فهم مواقف القيادة وانعطافها نحو وجهة دون اخرى ولكن لا تكفي الثقة في القيادة مهما كانت حكيمة دون التقيد بمبادئ عامة تتماشى وشخصية الحزب كما تقبلها وتتقبلها القواعد العريضة للحزب دون شعور بالحرج أو بالتنكر لمبادئها. وحتى بمنطق القوة التفاوضية البعيدة عن الأعين فإن القيادة بإمكانها أن تجعل من التقيد بمقررات هياكل الحزب ورقة ضغط على المنافس تتعلل بها (بصدق) حتى لا تتنازل عن حد معين كما أن هذا السلوك الديمقراطي (التقيد بمقررات هياكل الحزب) سيقي الحزب شر الإنشقاقات والتشققات في المدى القريب والبعيد.

صحيح أن من يده في النار ليس كمن يرى المشهد من فوق ربوة ولكن من يده في النار قد يحجب عنه الألم كامل المشهد فيلتجئ لمعالجة الحيني على حساب المستقبل والله أعلم!

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock