تدوينات تونسية

امرأة من نغم… من وحي فيروز الصباح

نور الدين الغيلوفي
عجيب هذا الفضاء الافتراضي..
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ…
عطاء العقل البشريّ المتحرّر.. ما أعظمه…
إمتاع وإقناع وإيجاع.. وإشباع..
نفعُه لا ينتهي كبعض المطلق لا تسعه الساعات..
بادرتني فيروز هذا الصباح وكنتُ غالبا ما أفرّ منها.. لعلمي بأنّها تأسرني كلّما طرقتُ بابها.. وتأخذني من أشيائي وشؤوني التي لا تنتهي ولا يقف بها حدّ..
فيروز امرأة من نغم..
ونغم من السماء..
وسماء لا عدّ لنجومها..
ونعيم مقيم..
ولا حدّ لنعيمها…
والموسيقى عطاء إله..
ما أعجب الصوت يخترق منك جميع مسامّك يعالج تفاصيل الكيان…
وأنا أهمّ بالشاشة وقفتَ لي بباب البحث أغنية (أحترف الحزن والانتظار)..
توغّلتُ طلبا لصوت الصباح وقد طلبني..
صوت فيروز من مثيرات الصبح في وطن يبطئ به الصبح..
يحبسه الليل فيتقطّع نفسُه.. ولا يأتي..
في أوطاننا لا يأمن الصبح على نفسه من الرقباء..
لذلك يظلّ صباح الوطن مؤجَّلا إلى أجل غير مسمّى..
توغّلت طلبا لصوت الصباح ..
ولكن.. توغّلتَ فيّ المعاني المِلاح..
عاجلتني الإفاقة وجاءتني العبارة بما لم أتزوّد له وأنا أباشر مسافة يومي…
أحترف الحزن والانتظار
أرتقب الآتي ولا يأتي
تبدّدت زنابق الوقت
عشرون عاماً وأنا أحترف الحزن والانتظار
بدت لي بؤرة الوجع في الزمن.. كلّما طال بك الانتظار ألحّت عليك المواجع.. وإلّا فالحياة رحلة موصولة بالزمان والمكان.. وما دامت بهما فالانتظار من مقتضياتها..
أمّا انتظارك لما لا يأتي فجرح لا يريد أن يندمل..
وعدمٌ متربّص..
وخوف لا يزول من آتٍ لا يأتي..
احترت مع أيّهما أرتحل هذا الصباح: مع الصوت الآسر أم مع الحرف المحاصِر.. معنى بحجم الوجع المقيم…
عبرتُ من بوّابة الدموع
إلى صقيع الشمس والبرد
لا أهل لي في خيمتي وحدي
عشرون عاماً وأنا يسكنني الحنين والرجوع
ثقل الزمان حتّى تضاعفت العشرون..
وزاد من الفاجعة انسداد البوّابة بالدموع وحوصرت الشمس بين صقيعها والبرد.. وانتصب النفي عمودا لخيمة لا قوام لها..
وماذا تفيدك الخيمة إذا كنت وحدك..
لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ.. وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ؟
كبرتُ في الخارج
بنيت أهلاً أخرين
كالشجر استنبتُّهم فوقفوا أمامي
صار لهم ظلّ على الأرض
ومن جديد ضربتنا موجة البغض
تلاشت الخيمة بزوال الأعمدة التي تقيمها وطار السقف بعنف الصقع والبرد وما فُقِد حرارة الشمس..
ولكنّ سيزيف في الأنحاء يغريك بالتحدّي ويقيم لك من عناده خيمة أخرى.. بعمود أهل آخرين..
بنيتُ أهلًا آخرين
كالشجر استنبتُّهم فوقفوا أمامي
ولكن.. ما أقسى هذه الــــــــ(لكن).. تزيد البعد بعدا وتضاعف الخواء على العروش!..
لقد نبت الظلّ على الظلّ..
وزادت الشمس من انكسارها..
وزاد الصبح بعدًا ليطول الانتظار..
واستوطن البغض خيمتنا…
ومتى حلّ البغض بأرض ضاقت الأرض بما رحبت وتهدّمت الخيام ومُلّ المقام…
وها أنا أستوطن الفراغ
شرّدت عن أهلي مرتين
سكنت في الغياب مرتين
أرضي ببالي وأنا أحترف الحزن والانتظار
ليس أوجع لك من أن تكون مرتعا للفراغ..
وأن تكون في الغياب المتراكب.. أرض كلا أرض.. وبال محترق يحضن مرابع الخيام الأولى.. والخيام الثانية..
ولا حرفة لك غير اجترار الحزن ومضغ الانتظار…
ذاك بعض من وحي فيروز هذا الصباح…
قبلة على وجنة فلسطين..
أرضي ببالي وأنا أحترف الحزن والانتظار

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock