تدوينات تونسية

الأكراد بين آمال الاستقلال ومخاوف الحرب الأهلية

محمد بن نصر
قال الأديب الأنقليزي جورج أرويل “السياسيون في العالم كالقرود في الغابة: إذا تشاجروا أفسدوا الزرع وإذا تصالحوا أكلوا المحصول” في الحاتين يكون الشعب هو الخاسر الأكبر.
أؤمن إيمانا عميقا بدولة القانون، دولة المواطنة الحقيقية التي تكرم الإنسان مطلقا بغض النظر عن انتمائه الطائفي والمذهبي والعرقي. دولة لا تفكر فقط في تأمين حق حرية التعبير للفرد ولكن أيضا في تأمين شروط تحققها واقعيا بتفعيل مبدأ تكافؤ الفرص. في هذه الحالة كل دعوة للانفصال عنها تكون غير ممكنة واقعيا وغير مقبولة سياسيا. أؤمن أيضا إيمانا لا يقل عن الأول قوة بل يضاهيه بأن الإنسان الحر لن يخضع للاستبداد باسم الدين أو القومية أو الأديولوجيا إلا غصبا وأنه سيعمل ما في وسعه على مقاومته باسم المواطنة المشتركة وباسم قيم الدين وباسم قيم الإنسانية وعندما تعجزه كل هذه الوسائل سيسعى إلى تكوين كيان خاص به ويصبح طموح الاستقلال باسم حق تقرير المصير أمرا محتوما.
من هذا المنظور أفهم القضية الكردية ولا أرى في الجوهر فرقا كبيرا بينها وبين القضية الفلسطينية من هذه الزاوية. من زاوية أن هذه الشعوب التي تقطعت بها الأسباب بين الدول من حقها أن تتوحد تحت كيان جامع بعد هذا التاريخ الطويل من التهميش والمواطنة المنقوصة بالرغم من أن منطق التاريخ يقول أن المستقبل للكيانات الكبرى ولكن الكيانات الكبرى ستكون غثاء كغثاء السيل معرضة دوما للتفكك اذا لم ينعم مواطنوها بحياة كريمة.
كم تزعجني تلك الحجج البائسة التي تردد دائما بأن وضع الكورد في العراق أفضل من أوضاعهم في بلدان أخرى وهل قدر الكورد أن يتفاضلوا في الدونية، وأن يكون منتهى مُنَاهم مواطنون من درجة ثانية وكم تزعجني حجة أن هذا الكيان الوليد سيكون تحت الوصاية الإسرائيلية وعلى فرض أن هذا الكلام على تهافته صحيح، فهل هناك كيان عربي ليس تحت الوصاية الإسرائيلية بشكل مباشر أو غير مباشر. كأني بهم يقولون لا قبل للكورد أن ينافسوا من لهم خبرة طويلة في العمالة لإسرائيل. يقول مثل تونسي ما أتعسك يا صنعتني عندما تصبحين عند غيري.
استفتاء الإستقلال
نظم الكورد استفتاء شعبيا حول الاستقلال وكما كان متوقعا فقد فازت نعم للاستقلال عن دولة العراق بالأغلبية المطلقة. سارعت كل الدول صاحبة النفوذ في العراق وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية إلى مطالبة السلطة الكوردية بإلغاء الاستفتاء. ونتساءل ما المضرة التي تلحقهم من ذلك؟ ألم يقسموا الموحد وجزأوا المقسم، ألم تكن تلك هي سياستهم التي ساروا على نهجها منذ زمن طويل. رفضت السلطة الكوردية، البرزاني تحديدا، هذا الطلب وأصرت على استكمال مشروعها الإستقلالي وما كان لهم أن يصروا وهم يعلمون أن جناحهم مهيض. لعلهم لم يتصوروا أن يصل الأمر بإخوة الدين والعرق إلى الخيانة أو لعلهم كانوا ينتظرون أن يفاتحونهم في الموضوع. ولكن المتحمسون منهم للإستقلال في غمرة نشوتهم بنتائج الاستفتاء، نسوا أو تناسوا أن الملك ليس له رحم. بين المغامرة الانفعالية والمغالبة المدروسة خيط رفيع، إذا لم ينتبه إليه الفاعلون السياسيون، وقعوا في أحد أمرين، المبدئية الساذجة أو التبعية الإنمحائية والقبول بالتذيل المقيت للقوى النافذة. أمام هذا الرفض صدرت الأوامر للقوات العراقية، معظمها من الحشد الشيعي، بالزحف على المناطق المتنازع عليها. في ليلة الهجوم المرتقب حل قاسم سليماني بالسليمانية ليلتقي مع هيرو زوجة المرحوم مام جلال ويسفر هذا اللقاء عن خطة الخيانة التي ستظهر للعيان أثناء بدء المعركة والتي سيطلق عليها أصحابها خطة حقن الدم الكوردي وكثيرا ما يتم تبييض التنازل عن المبادئ لمصلحة خاصة فردية أو حزبية باسم الحفاظ على المصلحة العامة. يبدو أن شيعة العراق تسيل دموعهم ودمائهم لطما، ثأرا للحسين ولكن إذا فكروا استحضروا عقل يزيد، عقل المكيدة والمخاتلة.
بدأ هجوم القوات العراقية المباغت بإسناد من المدفعية الإيرانية وكتائب الحرس الثوري. تصدت لهم قوات البشمرقة وأوقعت فيهم خسائر معتبرة وفجأة ينسحب جناح طالباني وتضطر قوات برزاني للتراجع فسيطرت القوات العراقية على المناطق المتنازع عليها دون مقاومة تذكر.
لماذا انسحب جناح طالباني؟
زوجة مام جلال (جلال طالباني) ذات النفوذ الكبير، تخشى من فقدان سيطرتها على السلطة في السليمانية بسبب خلافها مع النائب الأول لمام جلال ونائب رئيس الإقليم والذي من المفروض أن يستلم قيادة الحزب وأيضا بسبب تحالف هذا الأخير مع محافظ كركوك نجم الدين كريم وقد حرمها ذلك من عائدات البترول التي أصبحت تحت سيطرة قوات البشمرقة التابعة للبرزاني. أضف إلى ذلك حضور التاريخ بكل ثقله فبرزت ترسبات الخلافات القديمة بين مام جلال والملا مصطفى البرزاني ثم مسعود برزاني، فصعب عليها قبول أن يكون الاستفتاء وما يمكن أن ينتج عنه سياسيا من انجازات تحسب للبرزاني، فعملت على إفشاله ميدانيا.
اتفاق الخيانة
الجهة العراقية، تعلم كل شئ عن رهانات السيدة هيرو وعن طموحاتها فعرضت عليها دفع رواتب الموظفين وإعلان إقليم داخل الإقليم يتكون من كركوك وحلبجة والسليمانية مقابل الانسحاب من المعركة كل ذلك بضمانات إيرانية/أمريكية وهكذا كان. وهكذا أصبح الحق المسلوب وسيلة للإغراء بعد أن كان وسيلة للضغط. كان وقع الخيانة والانسحاب شديدا ومؤلما على الكورد، كان أشد وقعا من سيطرة القوات العراقية على المناطق المتنازع عليها. لقد تعود الكورد على الكر والفر مع القوات العراقية ولكن جراحات الخيانة ستأخذ وقتا طويلا حتى تندمل وقد لا تندمل إذا تم تغذيتها بخيانات قادمة. كانوا ينتظرون صمودا لقوات البشمرقة يترجم حماسهم للاستفتاء فوجدوا أنفسهم أمام الهزيمة وخطر الحرب الأهلية. فضلا عن خسائر كبيرة في المعدات والأرواح.
استطاعت القوات العراقية بهذا التطور الذي شهدته الأوضاع أن تطوي صفحة الاستفتاء وأن تفتح صفحة مخاطر الحرب الأهلية التي سيصبح العمل على تجنبها من أولويات سلطة اربيل. فضلا على انتصاراتها الميدانية والواقع الجغرافي الجديد الذي فرضته.
كيف ستتعامل القيادة الكردية مع هذا الواقع الجديد، كيف ستواجه الصعوبات الاقتصادية التي ستزداد تعقيدا خاصة وأنها عاينت بمرارة كيف وظفت الولايات الأمريكية القضية الكردية وقد تهيأ لها أنها أوت إلى ركن شديد؟ ذلك ما ستسفر عنه الأيام القادمة.

جلال طالباني و زوجتة هيرو ابراهيم

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock