تدوينات تونسية

إن لم تحترق.. فما رأيك في الغرق ؟؟؟

عبد العزيز الرباعي
الفصل الأول
أبي.. هل يمكنك أن تعيرني مبلغ ألف دينار؟
ألف دينار.. ولم تريد هذا المبلغ يا ولدي..
أنا مقبل على مشروع جديد وأتمنى أن أوفق فيه وأنا أعدك أن أعيد لك المبلغ وزيادة في أقرب الأوقات يا أبي.
ولكنك تعمل الآن على ما أعتقد فماذا ستفعل في عملك؟
وهل تسمي ذلك عملا يا أبي؟ أنني أعمل ثمانية ساعات يوميا من أجل أربع مائة وخمسين دينارا؟ هل ترى أن صاحب شهادة في الهندسة مثلي يجزؤه مثل هذا المبلغ الزهيد؟؟
البدايات دائما صعبة يا ولدي .. ربما في الأيام المقبلة ستتحسن أوضاعك..
وهل سأبقى أنتظر حتى تتحسن أوضاعي .. هذا إن رضي عني صاحب العمل ورسمني أصلا.. أنت تعلم يا أبي أن سوق الشغل بها فائض في اليد العاملة وأرباب العمل أصبحوا يتاجرون بنا.. الأمر بسيط عندهم إما أن تعمل وتقبل بكل الشروط وإما أن تترك المكان لغيرك..
إذا لنعد إلى موضوعنا .. ما هو المشروع الذي تعتزم بعثه .. وهل إن مبلغ إلف دينار ينفع في هذه الأيام لبعث مشروع؟؟؟
أنا أيضا ادخرت مبلغا من المال يقارب ضعفه..
وماذا يمكن أن يفعل مبلغ ثلاثة آلاف أو حتى خمسة آلاف دينار؟؟ إنه لن يسمح لك بفتح أي مشروع جاد…
لا أنا فقط أحتاج مبلغ أربعة آلاف دينار في الجملة..
إلى حد الآن أنت تراوغني وترفض أن يجيب عن سؤالي.. ما هو هذا المشروع؟
الحقيقة يا أبي أنني قررت أن أهاجر فهذا البلد لم يعد لي فيه عيش!!!
ماذا ؟؟ تهاجر؟؟ ولمن ستتركنا؟؟ ثم كيف ستحصل على عقد عمل وتأشيرة ؟ وأي بلد تقصد؟؟ لقد قلت لك أكثر من مرة أنني ضد هذا الحل وضد هذا الأسلوب في التفكير… بلدك أولى بك يا ولدي؟؟
بلدي؟؟ بلدي مستغن عني وعن خدماتي.. بلدي لا يوفر لي شيئا.. تمنيت أن أبقى وحاولت وأنت أكثر من يعلم ولكن الأبواب في وجهي كانت دائما موصدة؟؟ أنا الأن أبلغ من العمر سبعة وثلاثين سنة وأنا عاجز عن تحقيق أي شيء.. خطيبتي تركتني بعد أن ملت الانتظار.. أنا لم أقدر على شراء شقة أو بيت أو حتى قطعة أرض.. بدون سيارة.. مرتبي بالكاد يكفيني.. حتى أنني لازلت أعيش عالة عليك.. وأنا لم أعد أحتمل هذا الوضع يا أبي.. أنا أفضل الموت على البقاء معلقا هكذا لا أنا بحي ولا أنا بميت .. كل يوم أكرر نفس السؤال وأنا أستيقظ من نومي.. لم أنا أعيش؟ أنني أصبحت أشبه ذلك الحيوان الذي ينهض من نومه ليبحث عن قوته ثم يعود آخر النهار ليجتر ما جمعه خلال يومه ثم ينام.. بل ربما الحيوان أفضل مني لأنه يجد المأوى والرفيقة ويمكنه أن يكون أسرة.. أما أنا فأنا أعيش على الهامش بلا هدف ولا أمل ولا مستقبل…
طأطأ الأب برأسه.. لم يجد ما يمكن أن يجيب به فلذة كبده وقد أحس بما يحس به من حرقة وألم وعذاب.. اغرورقت عيناه بالدموع.. لأنه هو أيضا يحس بالعجز عن الوقوف بجانب ابنه الوحيد الذي فعل المستحيل من أجل أن يجعله متعلما ويمكنه من الحصول على شهادة مرموقة.. اعتقادا منه أنه سيعيش حياة أفضل من تلك التي عاشها هو.. وأنه سيحصل على عمل محترم وسيصبح من الطبقة المتوسطة أو حتى فوق المتوسطة.. لكن كل آماله ذهبت أدراج الرياح.. ثم استجمع رباطة جأشه وأضاف:
أين تريد أن تذهب وكيف؟
لقد تعرفت على مجموعة من الشباب يعيشون نفس الأوضاع تقريبا وقد قررنا أن نذهب إلى إيطاليا..
كان الوالد متكئا فانتفض من مكانه كأنه أصابه صاعق :
تريد أن تحرق؟؟؟ أعد علي ما قلته منذ قليل؟؟ تريد أن تحرق أليس كذلك؟؟ إنك يا ولدي لن تحرق إلا كبدي وكبد والدتك المسكينة.. قالها الأب وقد تهدج وجهه وجحظت عيناه وتدلى فكه وبدا مترنحا وكأن شيئا ثقيلا وقع من حالق على رأسه..
وهل هناك من سبيل غير ذلك للهجرة في أيامنا هذه يا أبي؟؟
يا إلاهي.. رحماك يا إلاهي.. أتريد مني أن أتركك تركب في مراكب الموت تلك؟؟؟ أتريد مني أن أقدم بيدي هدية إلى الردى؟؟ هل جننت؟؟ يا ولدي يا قرة عيني أنت كل ما عندي في هذه الدنيا فكف تريد مني أن أوافق على أمر مثل هذا..
بالكاد أتم الأب كلماته تلك ليهوي على الأرض كمن به مس وقد دس وجهه بين يديه محاولا إخفاء دموعه عن ابنه من دون جدوى.. تأثر الولد لمرأى أبيه على تلك الحال.. فارتمى يحضنه بين يديه ويقبله وهو يقول له من بين دموعه المنهمرة مدرارا أنهار الطوفان:
أرجوك يا أبي لا تصعب علي الأمر أكثر.. أنا أيضا مثلك أكاد أموت حزنا وفرقا.. لكن ”ما يلزك على المر كان إلي أمر“ أنا يا أبي لم أعد أستطيع أن أنظر لنفسي في المرآة.. أنا أصبحت أحس أنني لا أستحق الحياة.. فدعني أجرب حظي علي أنجح كما نجح غيري.. فالأعمار بيد الله .. ولن يصيبني إلا ما قد كان كتب لي.. وأنت رجل مؤمن.. فدعني يا أبي أرجوك.. ثم قبله في أعلى رأسه وخرج…
الفصل الثاني
متى ستخرج بنا المركب؟
هذه الليلة.. فكل التوقعات الجوية تؤكد أن العوامل المناخية مواتية وأننا في غضون ساعتين سنكون على الضفة الأخرى..
كم سنكون على متن القارب يا ترى؟
لا أدري لكن قائد السفينة أكد لي أنه لن يجازف بحمولة أكثر من المطلوب.. هيا استعد تناول طعامك واحقب أدباشك وهيا استعد للمغادرة.. سنقوم بجولة في الأرجاء أولا ومن ثم وعلى الساعة السابعة والنصف نكون أمام المركب..
عندما وصلا إلى المركب كان هناك بعض الشبان وحتى النساء والفتيات والأطفال ممن سبقهم إليه.. كان الجميع يتحرك في هدوء وصمت محاولا عدم إثارة أي صوت حتى لا يتم جلب الانتباه..
صعد الصديقان على ظهر السفينة.. كانت في حالة جيدة.. وهو ما أشعرهما بشيء من الاطمئنان.. انزويا في مكان من قمرة المركب وراح كل منهما في شبه غيبوبة وقد انتابهم شعور غريب هو مزيج من الأمل والخوف والرهبة والحزن والسرور والتطلع.. حتى أنهم على كثرتهم لم يكن أحد منهم قادرا على الكلام.. فقط بعض الأطفال هم من كانوا يلقون بعض الأسئلة من حين لآخر على مرافقيهم..
– لقد حان موعد الانطلاق.. ليلتزم الجميع الهدوء.. أعتقد أنه مع هذا الطقس الصحو المواتي سنكون خلال ساعتين على أقصى تقدير على الضفة الأخرى…
أخذ البعض يتلو شيئا من القرآن بينما لهجت بعض الأصوات الأخرى بالدعاء.. في حين التزم آخرون الصمت كأنهم تحولوا إلى ما يشبه التماثيل الحجرية وقد غابوا كلية عن الوعي ودخلوا في عالم من الرؤى والتهيؤات..
بعد أن توغل المركب في البحر وهو يمخر عبابه في هدوء وثبات.. نام البعض من الركاب .. بينما صعد البعض الآخر إلى سطح المركب للتمتع برؤية البحر واستنشاق بعض الهواء المنعش..
صعد الصديقان إلى السطح.. كان الجو باردا ومفعما بالرطوبة.. لكن السماء كانت صافية ومتلألئة.. والبحر ساكن كأنه كأس ماء.
هل هذه أول تجربة لك في ركوب البحر؟؟
نعم فأنا من سكان الجنوب وأنا لم أركب في حياتي قط مركبا.. لذلك ينتابني إحساس غريب لا أستطيع أن أصفه لك ولما أرى هذا المشهد المهيب وهذا الفضاء الرحب الذي لا يحده شيء.. حقا إنها تجربة رائعة.. وأنت..
– لا .. هذه ليست التجربة الأولى لي .. لكن هذه أول مرة أسافر بها عبر البحر وأقطع كل هذه المسافة على ظهر مركب.. حقا إنها تجربة مثيرة كما تقول.. أرجو أن نصل سريعا وأن تنتهي هذه المغامرة بخير..
أنا أيضا أتمنى أن نصل في أقرب وقت فقد بدأت أشعر قليلا بدوار البحر.. اعذرني أنا أريد أن أعود إلى قمرة السفينة..
أنا أيضا سألحق بك..
نزل الاثنان إلى القمرة وحاول كل منهما النوم أو حتى مجرد الاسترخاء حتى يتخلصا من ذلك الشعور المقلق بطول الوقت..
كانا تقريبا بين اليقضة والنوم عدما أحسى برجة غريبة وكأن السفينة أخذت تنتفظ.. ثم سمعا صوتا قادما من بعيد وكأنه صوت أذان أو صوت أحد يتكلم من مضخم للصوت.. مختلط بصوت صفارة إنذار.. بدأ البعض يستيقظ متسائلا..
ماذا يحدث؟؟
وفجأة اهتزت السفينة اهتزازة رهيبة وانقلبت وانقصم جسدها.. وتدفقت إليها المياه من كل جانب وتعالى الصياح والتخبط.. رفع شاب رأسه وهو يضرب الماء بذراعيه القويتين مبتعدا عن جسم السفينة المتهاوي فإذا به يرى مركبا أخرى تصطدمهم مباشرة كانت في الأفق بعض الأنوار قد بدأت تلوح للضفة الأخرى.. لم يكن يدري ما يفعل أيغامر بالسباحة حتى الوصول إلى الشاطئ الآخر أم يحاول مد يد العون لمن يستغيثون من حوله من رفاق سفره .. رأى أمامه أحدهم يتخبط ويكاد يفقد وعيه رمى له بطوق نجاة وجده طافيا إلى جواره.. لاحظ أن السفينة التي صدمتهم لم تبتعد بل راحت تسلط أضواءا كاشفة على المكان.. حاول أن يتبين ما الذي يحدث لكنه فجأة أحس بقبضة قوية تلتف حول رقبته وتحاول أن تتشبث بجسده وتجذبه إلى الأسفل .. فهم أنه أحد الغرقى الذين لا يحسنون السباحة يحاول التشبث به.. حاول التخلص منه.. لكنه لم يفلح فقد كان من تشبث به قويا وضخما.. ضرب الماء بكل قوته ضرب الممسك به وعضه عضة قوية لكن دون فائدة.. وماهي إلا لحظات حتى أحس بأن قواه قد خارت وأنه لم يعد له من بد سوى أن يترك نفسه للموج والقاع الذي الراح يناديه.. فاستسلم للقدر وأغمض عينيه فهدأ كل شيء من حوله وعم السكون ولم يعد يرى أمامه سوى صورة أبيه وهو دامع العين يصلي وقد رفع كفيه نحو السماء…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock