تدوينات تونسية

أرجوكم، لا تحدثوني عن الزمن النبوي الشريف

بشير العبيدي
#أقولها_وأمضي | الشعبُ يُرِيدُ مجتمعاً شبيهاً بمجتمع عهد الرَّسُول صَلَّى الله عليه وسلّم ! |
حيثما ولّينا وجوهنا في تفاصيل ثقافة المسلمين المعاصرين، وجدنا السّرديّة ذاتها تروج عند جميع الناس والتيارات والشخصيات: الشعبُ يُرِيدُ مجتمعاً شبيهاً بمجتمع عهد الرَّسُول صَلَّى الله عليه وسلّم !
ولذلك تنهال علينا يوميّا مئات الجمل القصيرة الوامضة، في الشبكات والتلفزات والجرائد والإذاعات، تردّد ما هو من قبيل: قبل النصر، ينبغي القضاء على الخونة… المنافقون أولا ! علينا استئصال العملاء ! يجب تنقية الصفوف ! وهلمّ جرًّا من الجمل الوامضة الحامضة !
والسبب الذي يبرِّر به مسلمو الْيَوْم فهمهم بسيط للغاية: وهو أنّ زمن النبوّة هو خير الأزمنة والقرون، بنصّ مقدّس: خير القرون قرني ! ولأنّه خير القرون، فهو لا بدّ أن يكون أطهر وأنقى وأصفى ما عرفت البشريّة في حياتها، وهي المدينة الفاضلة التي لم تعرف الإنسانية طهرانيّة تضاهيها ! ولذلك نردّد جميعا دون ملل أو كلل: الشعبُ يُرِيدُ مجتمعاً شبيهاً بمجتمع عهد الرَّسُول صَلَّى الله عليه وسلّم ! ونتمنّى لو أنّنا نعيد تلكم التجربة !
لكن السؤال الملحّ والمفزع الذي قلّما نتطارحه هو: لأي شَيْءٍ كان قرن النبيّ صلى الله عليه وسلّم هو خير القرون؟ وهل الخيريّة الواردة في الحديث الشريف والقرآن الكريم تعني الطهرانيّة وخلوّ المجتمع المسلم من شغب الكفر والنفاق والتمرّد والردّة والحروب والتنازع والفساد والفحش وسائر الموبقات والمحرّمات؟ هل كان قرن النبيّ صَلّى الله عليه وسلم خير القرون لخلوّ المجتمع والدولة من كلّ ذلك؟
لا يمكن لعاقل أبداً أن يدّعي خلوّ المجتمع المسلم في القرن النبويّ -ومنذ بدايته الأولى- من كلّ ما نهرب منه الْيَوْم من صور النفاق والفساد والرِّدة والعمالة والنزاع والانقسام وغيرها ! كما أنّ الصّورة الذهنيّة التي علقت بأذهان المسلمين أوهمتهم بأنّ الخيريّة تعني صفاء المجتمع والدولة من شوائب السقوط واستتباب الأمن والرخاء والاسترخاء والطمأنينة من كلّ بلاء، حتّى صار الزمن النبويّ في وعينا الجمعيّ هو رديف الحياة في جنّة الخلد حيث لا نزاع ولا صراع ! وهي عند التحقيق صورة تمثيلية لا تطابق الواقع تماما، وتلصق بتاريخ المسلمين رسما مثاليا متعاليا على الأنسنة وغارقا في الملائكيّة السّاذجة.
فلأيّ شَيْءٍ كان القرن النبويّ خير القرون إذن ؟
إنّ خيريّة زمن النبيّ صَلّى الله عليه وسلم ليست كامنة في خلوّ المجتمع آنئذ من صور التنكّب عن الصِّرَاط المستقيم، بل على العكس تماما، في وجود الإسلام الخيريّ القويّ الأبيّ جنبا إلى جنب مع أغلب المظاهر السلبية التي نشكو منها في زماننا هذا.
ولو دققنا بعين المتأمّل الحصيف لرأينا أن مجتمع المدينة المنوّرة فيه من عجيب التنوّع والتناقض: فالمنافقون في المدينة تيّار قائم بذاته حتّى أنّ القرآن الكريم خلّد تجربتهم بتسمية سورة كاملة “المنافقون” نتلوها في صلواتنا. وكان أقصى ما عوقب به هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من صلاة الجنازة على موتاهم! كما أنّ الرّدة كانت موجودة لا بل طالت حتّى كتبة الوحي مثل الصحابي عبد الله بن أبي سرح الذي تراجع فيما بعد وَقاد حملة موفقة لفتح شمال افريقيا. ثم أنّ صحيفة المدينة احتوت نحوا من خمسين فصلا أغلبها فصول لتنظيم التنوع والتعدد والاختلاف في المدينة! كما أن القرن النبويّ شهد الصراعات والقتل وسفك الدماء ووصل الأمر إلى ضرب الكعبة الشريفة بالمنجنيق !
ولقائل أن يستغرب ويسأل: إن كان الأمر كما وصفتَ ففيم تتمثّل الخيرية إذن ؟
وأجيبُ: إنّ الخيريّة المقصودة هي خيريّة الرؤية القاهرة والبيّنة الظاهرة والسبيل الباهرة التي اهتزت في النفوس وربت. إنها خيرية الأخلاق (إنَّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ، فإن هُمُ ذهبتْ أخلاقهمْ ذهبوا). إنّ خيريّة الزمن النبوي ليست في خلو المجتمع من الفساد بل هي خيرية القدرة على لجم الفساد وحجب الابتذال والرداءة والدناءة والسقوط. إن خيرية الزمن النبوي هي في إدارة التعدد والاختلاف والتنطع والانفلات. إنها خيريّة الوسطيّة التي هي أعقد صور إدارة المجتمع البشري على الإطلاق ! لم يخل مجتمع الزمن النبوي من التيارات والأحزاب والخلافات والفتن والقتال والجرائم، لكنه كان زمنا خيريّا بما شهده من فتوحات للعقول والحقول، وولاء للفضيلة والحق والعدل والإحسان، وأفول الجهل والكبر والبظر والظلم، إنه زمن خيريّ لأنه لم يشهد حصد أرواح مئات الملايين، وزمن لم يدمّر فيه الهنود الحمر ولا الهنود السمر. إنه زمن صعد فيه بلال الأسود الحبشي على ظهر الكعبة لكي يؤذن، نكاية في العنصرية وتنكيلا بالدونية.
وفِي كلمة، إن الزمن النبويّ خيريّ لا لأنّه كان صافيا طاهرا ملائكيا، بل لأنّه زمن علّمنا كيف ندير دفّة الإنسانية بقوة الانسجام والاعتصام ولو للقلة القليلة داخل المجتمع، وسط أهوال التقاطع والتدابر والتنافر التي هي ظواهر ملازمة للبشرية.
وكثيرا ما أحبّ زيارة جزيرة جربة التونسية، لا لجمالها الفتان فحسب بل لكونها تمثل صورة رائعة مصغّرة للمجتمع المسلم ! فهي جزيرة يسكن فيها الأمازيغ والعرب، والمسلمون واليهود والنصارى، والمسلمون منهم مالكيون، ومنهم أباضية، والسكان منهم الأصيل ومنهم الوافد، ومنهم المستقر ومنهم السائح، وكل هذا الطيف يعيش متآلفا في جزيرة قطرها عشرون كيلومترا، لكم دينكم ولي دين ! هكذا أتخيل مستقبل أوطان المسلمين في الألفة: مثل جزيرة جربة !
الآن، ما على الذين يؤمنون بخيرية الزمن النبويّ سوى أن ينزلوا من شرفات قصورهم العالية، وأن يختلطوا بالناس في الأسواق والدروب والحقول والقرى والأرياف، وأن يعيشوا مع الناس الآلام والأحلام، وأن يجرّبوا الإنسانية في أجَلَّ مظاهرها وأدقّ تفاصيلها، سيرون الجمال الذي بسطه الله في هذا الوجود من خلال خدمة الناس وحبّ الناس والعيش مع النّاس، والرفق بالناسّ. هذا ما أمر به ربّ النّاس.
كم بودّي أن يتوقف مسلمو الْيَوْم عن التفكير في استئصال بعضهم البعض قبل أن يؤسسوا مجتمعا قويا. إن المجتمع القوي لا سبيل إليه إلا ببناء قدرة جديدة متفردة لإدارة التنوع والاختلاف، لا باستئصال علمانييه ولا باستئصال متدينيه ولا باستئصال منافقيه !
الآن، أرجوكم، لا تحدثوني عن الزمن النبوي الشريف. حدثوني كيف يعيش فيكم الإسلام بروح الزمن النبوي الشريف!
✍? #بشير_العبيدي | محرّم 1439 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أَمَلاً |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock