تدوينات تونسية

البوسطة.. رحلة الموت داخل الصندوق الحديدي

خديجة خويص

هل رأيتم مثل هذه الشاحنة من قبل !!
أتدرون ما هي ؟؟
إنها #البوسطة رحلة الموت داخل الصندوق الحديدي ..
فما قصّة الموت فيها !!

خلالَ ثلاثةٍ وعشرينَ يوماً قضيتها في سجنِ الرّملة، كان لا بدّ من مثولي أمام المحكمة عدّة مرّاتٍ، وذلك له إجراءاتُه التعسّفيّة، في رحلة عذابٍ طويلة…
عندما دخلتُ الليلة الأولى للسجن، تعرّضت لتفتيش عارٍ تماماً، تفتيش مهين، دون أدنى احترامٍ للكرامة الإنسانيّة، وهذا التفتيش قد يتكرر مراراً عند كلّ دخولٍ أو خروجٍ للسجن، حسب مزاجِ السجانة أو حسب حقدها…
وكما ذكرت لكم سابقا يدخل السجانون للزانزين بهدف عدّ المساجين أو التفتيش ثلاث مراتٍ يوميّا، وهنا يكبّلون يديك عبر فتحةٍ صغيرة في باب الزنزانة قبل دخولهم، وإن أخرجوك لأيّ غرضٍ من زنزانتك فإنّهم يقيّدون يديك وقدميك…
قبل بزوغ الفجر تأتيك سجّانة غليظة القلب، تناديك أنّك ستمثل اليوم أمام المحكمة، وهنا لا يصبرون عليك، يوقظننا فجأة من النوم، ويصرّون عليك لتستعجل ولا يمهلونك حتى تتوضأ للفجر أو تصلي، يكتفون بالسّماح لك بغسلِ وجهك..
هنا يبدأ مسلسل التكبيل، تكبيل الأيدي والأرجل بكل غلظةٍ وفظاظة، وتجرّك السجّانة بكل قسوة كما تُجرّ الشاة، حتى تصل بك إلى شاحنة كبيرةٍ، تحتوي على زنازين حديدية صغيرة بحجم شخصين، ويدخلونك إلى الشاحنة، ويزّجون بك داخل زنزانتها الضيّقة مكبّل الأيدي والأرجل، وتكون ركبتيك ملاصقتان لباب الزنزانة مباشرة، وظهرك مستندٌ إلى ظهرها تماماً، مساحة جلوسك فقط، هذه هي البوسطة، التي قد تمكث فيها من الخامسة صباحاً حتى السابعة مساء، وتنطلق في رحلتها من الرملة للقدس، وتصطف أمام المحكمة، ويظلّ محركها يعمل بلا توّقّف حتى لو كانت في مصفّها، ولك أن تتخيل شاحنة حديدية بزانزين ضيّقة تحت شمس ملتهبة، وهدير محركها يتحرك طوال النّهار فيزيدها حرارة، وبلا تكييف طوال النهار، وأنت مقيّد اليدين والقدمين، بلا ماء ولا طعام….
ذات يومٍ شديد الحرارة، كدنا نختنق في البوسطة وقد بلغ بنا العطش أوجه، وصلتُ السابعة مساء وما ان نزلت من البوسطة بعد 14 عشر ساعة فيها حتّى سقطت على الأرض من شدّة الإعياء، وليس معي سوى شرطيّ نجسٍ فوق رأسي يحاول إنعاشي…
خلالَ الـ 23 يوما، كان منها تسعة أيّام في البوسطة اللعينة، حتى تشنجت قدماي وركبتاي فيما بعد، وأصيب ظهري بآلام حادة، ناهيك عن قدمي التي تقرّحت وتعمّقت فيها الجروح من آثار القيود، والويل لك إن تعثرت قدماك أثناء المشي وأنت مقيّد، حتى أنّني ذات مرة تعثرت بقيودي، بسبب فظاظة الشرطية في سحبي، فلامست قدمي حذاءها، فضربتني ودفعتني، واتهمتني بمحاولة ضربها وهي تردد، مرابطة مرابطة، وشدّت قيود يديّ حتى تقرحتا…
وما أن تدخل رواق المحكمة، حتى تستلم جرّك شرطية أخرى، تتعمد إهانتك أمام أهلك ومن يفدون لمحاكمتك، فإن تبسمت نهرتك، وإن تكلمت أخرستك…
ومن عظيم كيدهم، أنّهم يتعمدون تكبيلك، أمام الشباب المعتقلين، ولكم أن تتخيلوا امرأة يقيّدون يديها ورجليها أمام إخوتها أو أبنائها، تخيلوا القهر الذي يعتريهم، وهم يرون أمّهم أو أختهم يقيّدها سجّانٌ نجس، فإن كلموها فكلمةٌ واحدةٌ للتصبير “الله يفرجها يمّا”، أمّا إن اعترض أحدهم فإنّهم ينهالون عليه ضرباً وشتماً…
وبما أنّني كنت في سجن للمدنيّات والمجرمات والمدمنات والشاذات، فكثيرا ما تتعرضُ إحداهنّ لي بالشتم وبذيء الكلام، والتهديد بالقتل والوصف لي بالمجرمة والإرهابيّة، أو بكلام يندى له الجبين ممّا يعتبر قذفا، ولا يسع المجال هنا لوصف الوقاحة والنذالة ومدى السقوط لإحداهنّ وهي تصف أمامي جسدها وشذوذها وأفعالها اللاأخلاقية على مرأى ومسمع السّجانين…
كلّ ذلك وأكثر في #مسلخ_الرملة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock