تدوينات تونسية

دولة البهتان والقبلة الحرام

نضال السالمي
موقف من قضيّة القبلات في الفضاء العام :
تداعى الفايسبوكيّون إلى حملةٍ واسعة تضامنا مع قضيّة لا أعلم تفاصيلها بدقّة ولكن يبدو أنها تدور حول سجن رجلٍ ما مارس قبلات حميميّة مع حبيبته في الفضاء العام..
صحيح أنّ القضيّة يبدو فيها اعتداء متبادلا بين البوليس والرّجل ممّا أدّى برجال الأمن للإنتقام منه عبر استغلال النصوص القانونية الممكنة لإدانة الرجل وتعريضه للسّجن بسبب قلّة أدبه أساسا لا بسبب القبلة جوهريّا (والله أعلم).
موقفي ثابت في إدانة دولة البهتان والنفاق والإزدواجية إذ تمارس تشويها دائما للعدالة فَتُسَلّطُها سيفًا لا يرحم ضدّ الضّعفاء والمساكين والمعزولين والعابرين.. وترميها جانبا كلّ ما تعلّق الأمر بكبار المجرمين وقطّاع الطّرق والأرزاق والأحلام.. والأمر واضح في هذه القضيّة أن ثمّة تعسّفا معتادا من جهازي الأمن والقضاء ضدّ الرجل وحبيبته.. وأطالب هاهُنا بممارسة أقصى الشفافية والنزاهة في تطبيق القانون لأنّي واثق أنّ حفيدة كبير الكهنة رئيسنا المُفدّى وإبن سيدة تونس الأولى بوشمّاوي لا يمكن إطلاقا ممارسة هذه الصرامة القانونية ضدّهما لو وقع القبض عليهما بصدد تعاطي القبلات..
لذلك رجاءً لا تزايدوا عليّ في نقد ممارسات الدولة الغارقة في خدمة اللصوص والجهات النافذة.. إنّها دولة الطبقيّة والتمييز بكلّ أشكاله..
ولكن.. و آآآخ من هذه الـ “لكن”..
هل يجوز بسبب شدّة معارضتي وحقدي على تيّارٍ ما أن أستميت في معارضته حتى عندما يكون صائبا أو يتقاطع في لحظة ما مع موقف صائب.. إنه مأزق حقيقي ذلك أنّي واثق أن الدولة لا تمارس هذا الزّجر القانوني حرصا على مكارم الأخلاق.. وإن كانت مكارم الأخلاق تدعو فعلا لمنع القبلات في الفضاء العام..
الحلّ في نظري يكمن في تجاوز هذه القضيّة بعينها وتقديم موقف عام وحاسم وواضح وفاءً لما أحمله من عمق الإنتماء للحبّ روحا وفلسفة ومنهجا.. ولشدّة ارتباطي الأخلاقي بالقيم المحافظة وبقيم الإسلام أساسا:
1. أولا يبدو لي أنّ هذه قضايا مفتعلة تماما لتحويل وجهة الرأي العام عن قضاياه الجوهرية.. وأتحسّس بصمات غرفة عمليات الثورة المضادة في كلّ ذلك: فجأة تنشر بعض الصفحات حكاية ما ثمّ يبدأ الأمر في الإتّساع من البسطاء حتى يبلغ السمّ كبار المثقفين والثوريّين.. الّذين عوض الإستماتة في الدفاع عن جواهر القضايا الحارقة والإنسجام ضمن خطة عمل واضحة ودائمة نراهم ينخرطون جميعا في هذه القضايا المسمومة والّتي لا يستفيد منها غير نظام الخزي والعار: هم ينهبون والشعب غارق في أوهام القبلات.
2. أنا -وباعتباري رجعيّا عتيقا- أرفض المجاهرة بالقبلات في الغرب فكيف الحال في بلداننا العربية والمتخلّفة: القبلة لحظة موغلة في الحميمية ولا أرى لها فضاءً غير الخلوة.. ثمّ إنّ المجاهرة بالقبلات في الشوارع سيكون عدوانا طبقيّا ضدّ المحرومين والبؤساء والمقهورين جنسيّا.. وأظنّ المجاهرة بالقبلات في الغرب قد انتشرت بعد تحقيق تقدّم كبير في مجال الرّفاه والحقوق الإقتصادية فماذا نفعل اليوم لطوابير المحرومين من الرفاه ومن الحب ومن الجنس حين يرون فئة قليلة جدا تمارس المجاهرة بالرّفاه والتقدمية في بلد الإنحطاط والبؤس.
3. أتشمّم أيضا انتشارا واسعا لسموم الحداثة الإمبريالية.. أي تلك الحداثة المُعدَّلَة فلسفيّا لتصير عامل إنحطاط وتبعيّة لدى البلدان الواجب إخضاعها لعولمة السوق: حقوق التحرر الجنسي .. العراء .. المثليّة .. الشذوذ .. سجن الإسلام في المساجد .. التحريض على قيم الرفاه .. إباحة القبلات .. التقزز من آذان المساجد ومن الحجاب .. تعديل الميراث .. كلّها أمور تخضع لنفس العقل التشريعي: إلغاء كلّ منظومة القيم واستبدالها بقيم السوق.. قيم العولمة.. قيم الحداثة الإمبريالية: إنّه السمّ في حساء العقل.
4. أن نحبّ هو أن نجعل الآخر نورا يُضيء طريق الخلود السّعيد.. أن نكون أيضا له نورا ورُكنًا حنونا وراية سلام وبلسما للجراحات.. أن نحب الآخر لا يتمّ إلا حين نحب كلّ الآخرين.. العالم.. الإنسان.. الحقيقة.. الله.. وبالتالي لا نجعل من حبّنا وحميميّتنا وقبلاتنا عدوانا نفسيّا أو أخلاقيّا على المقهورين عاطفيا وجنسيا والحالمين روحيّا وأخلاقيا ودينيّا.
5. يبقى جوهر الأمر في قول سيّد البشر: “لكلّ دينٍ خُلُقًا وخلق الإسلام الحياء”.. وبالتالي هل يفهم المدافعين اليوم عن القبلات في الفضاء العام أنهم سيُصدَمون غدا ببناتهم وأخواتهم وربما زوجاتهم يفعلون ذلك تحت أنظارهم: هل يملكون إستعدادا حقيقيّا لتقبّل ذلك فعلا وبعيدا عن المزايدات والعناد ؟؟
أنا لستُ ضدّ الخطيئة والذنوب فجميعنا قد يرتكب ذلك لكنّي مع السّتر كي نمنع الفساد من التفشّي: أنتم اليوم تدافعون عن قبلات الرجل وحبيبته.. ثمّ بعد عام قد تجدون تلك الفتاة نفسها تنتحبُ لأن حبيبها استغلّها جنسيّا وتركها على قارعة البؤس.. وهذه خاتمة أغلب قصص القبلات في بلادنا.. فانظروا رجاء لكلّ مسارات القضيّة بعيدا عن التهافت الحداثي الذي أنبّه له باستمرار.
ختاما.. المجال الذي أتحرّك فيه فعلا هو كيف نُوفّق بين قيم الإسلام وثوابته وبين جوهر الحبّ بوصفه معنى الوجود الإنساني ونورهُ الخالد ؟؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock