تدوينات تونسية

تونس : في مفارقة نجاحنا التاريخي وفشلنا السياسي

نور الدين الختروشي
يخطئ الحريصون على مكاسب الثورة اذا ظنوا انها ضاعت، ويخطئ اكثر اعداؤها اذا ظنوا انها ماتت، وعلى هذا فإن كل استراتيجية تقوم على الحدين الطاردين للمعطى الثوري التاريخي الكامن في الحالة التونسية ستنتهي بأصحابها الى الهوامش.
المشكل في تقديري ليس في عنوان ضياع الثورة من عدمه، المشكل في مصير المنجز السياسي للثورة الذي تتلاعب به اليوم أفاعي المنظومة القديمة من وراء ستار، وباستعمال اسوأ ادوات التحكم الزبوني في الادارة والاعلام وجهاز الحكم، ومن حسن حظ التجربة انها بدون استراتيجية انقلاب واضحة ومنسجمة على المعمودية السياسية المنجزة على ارضية دستور الثورة. تماما كما تعبث به الثورية الحالمة التي عجزت عن إستيعاب “الممكنات القصوى” للتغيير في حالة تونسية أختارت تجنب العنف الثوري، وناورت على دفع الدم ثمنا لدخولها الزمن السياسي الديمقراطي.
وبين القديم المخاتل الذي أفسحت له رخوية المسار السياسي بعد الثورة الطريق للتجدد واعادة الانتشار، وبين الجديد الذي شرعت له الثورة ممكن الوجود وصنع المصير العام، تراوحت الحالة التونسية بين أمل متجدد ولكنه يضيق في تجاوز لحظتها الانتقالية الهادرة والمتموجة، وبين يأس عبوس ولكنه يتسع من ممكن أستوائها على سوق الاستقرار والانتاج.
تكرر مشهد التجاذبات السياسية الحادة في دورة تهارج متجددة بتجدد محاور السجال السياسي، فما شهدناه نهاية الاسبوع الفارط من منسوب عنف رمزي ولفظي بين الفرقاء حول قانون المصالحة الادارية يحيل على عمق التخارج التاريخي بين طبيعة الزمن السياسي الديمقراطي الذي انبجس من الثورة وبين وعي النخب التي تصدت لورشة إدارة يومياتها.
مازال هاجس الرعب من عودة القديم متحكما في العقل السياسي للمنحازين لفكرة التدرج والاصلاح والتعايش. ومازال فائض التشاؤم من ممكن الحفاظ على الادنى من منجز الثورة متحكما في الحاسة السياسية للاطراف التي ألتحفت حقيقة أو مزايدة لحاف الثورة. ومازال هاجس الريبة والشك في “ولاء” الاسلاميين للديمقراطية مهيمنا على الدالة السياسية للمنحازين تاريخيا لقيم الحداثة السياسية. ومازال هاجس الشك في قدرة الجميع على إدارة موضوع الحكم مهيمنا عند الرأي العام.
مشهد التهريج المراهق الذي رافق جلسة التصويت على قانون المصالحة الادارية كثف تلك المعاني وعاد بنا مجددا الى نقطة “الصفر سياسة” فرفع النشيد الوطني في قاعة التصويت بالبرلمان كان إعلانا لنهاية المباراة بالعقل لتهدد ببداية المعركة بالجوارح، فكان اعلانا “لحرب مازالت ممكنة” في الحالة التونسية.
يبدو أن جرح الدكتاتورية لم يندمل على خد الوطن، فسرعة العودة الى منطق صفر سياسة في إدارة محاور الاختلاف حول ادارة الشأن العام، هو بالنهاية إستعادة نفسية بائسة لآليات تحكم النظام القمعي في المجال العام، وقاعدتها توظيف أدوات الاكراه الرسمي للدولة لحسم الاختلاف في ادارة الشأن العام، والعمل الدائم والمواضب على انتاج واعادة انتاج آليات تأميم الحقيقة الوطنية، واحتكار التحكم في المصير العام ضمن استراتيجية عنوانها البارز “الصفر سياسة” أو موت الخاطرة السياسية.
القوى المحسوبة على مقاومة القديم/ المستبد -وباستثناء الاسلاميين نسبيا- لم تثبت حماسا في مراجعة قاموسها السياسي الذي بقي قاموسا “ما فوق سياسي” أي قيمي يزايد بفرازيولوجيا الحداثة السياسية أو رفاهة المنطق الثوري، أو ما “تحت سياسي” يميل الى منطق التنافي والحرب.
في الحالتين نحن أمام أزمة عمودية عميقة في مجتمع النخبة حيث تعمق يوميات ادارة تونس مابعد الثورة القناعة بأنه مجتمع ما قبل ديمقراطي وعيا وخطابا وممارسة..
لن نسترسل في طرح أسباب أزمة الوعي والممارسة في مجتمع الحكم -بمن يحكم منه ومن يعارض فيه- فمنها ما يتصل بعمق التضاد بين تسارع تحولات المعطى الوطني والاقليمي والدولي بعد زلزال الثورة، ومنها وما يتصل بقوالب الخطاب السياسي للقوى الفاعلة تاريخيا في المشهد العام ومرجعياته الرمزية والايديولوجية، ومنها ما يتصل بغياب تقاليد التعايش والاعتراف بالمختلف والمغاير لدى قديم الخارطة السياسية وجديدها، فكل هذه العوامل وغيرها ربما تفسر كسل مختلف الاطراف وترددها “الخالد” في إقتحام مسار النقد الذاتي والمراجعات الجذرية أو “الثورية” لمنطلقات تفكيرها وتمثلها لذاتها و تجسيدها لموضوعها.
جل القوى الفاعلة اليوم في المشهد أطمأنت للمناورة على سؤال المراجعات والنقد الذاتي والمحاولة الوازنة واليتيمة لحركة النهضة في مؤتمرها العاشر تمثل شذوذا على قاعدة أرتاح لها شركاؤها وخصومها مدارها المحافظة على القديم والثبات عليه بدل مغامرة التجدد والتجديد.
يبدو انه بقدر مايلح الزمن السياسي الجديد في تونس ما بعد الثورة على الجميع في أرتياد مغامرة التجاوز لقوالب وشرعيات خطابها السياسي، بقدر ما يصر المعنيون على القديم المتمسك بما “قبل الثورة” قوالبا ووعيا وقاموسا وممارسة… وفي هذا ما قد يفسر حالة التخارج الحدي او الاغتراب بين النجاح التاريخي للثورة التونسية وفشلها السياسي المزمن..
جريدة الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock