تدوينات تونسية

ذكريات يومي الأول في المدرسة

الطيب الجوادي
الجوادي يدخل المدرسة [1]:
سنة 1968، لم يكن أحد في قريتنا الملقاة في أقاصي الريف يؤمن بجدوى العلم والتعليم، كان والدي مثل كل الآباء في القرية يرى أن طموحي يجب ألا يتجاوز “رعي الاغنام” وحراثة الارض ثم الزواج بإحدى بنات عمي !
ولكن الوالدة قررت أن تسجلني في المدرسة الوحيدة في القرية بدون أن تعلم أحدا بهذا القرار الأخرق كما وصفه كل من علم به، فقد كان أجدى بنا حسب رأيهم أن نقتني بثمن الأدوات المدرسية “نعجة” نستفيد من حليبها وصوفها، لا ان ننفق ملاليمنا الشحيحة في إرسال أبنائنا للمدرسة!
الطريف: أن الوالدة لم تعلمني بقرارها إلا ليلة الدخول إلى المدرسة؛ فقد وضعتني في قصعة النحاس وحاولت إزالة بعض طبقات الاوساخ التي تراكمت فوق جلدي، وراحت “تحك” جلدي المتيبس بفعل الغبار والشمس ببقايا شكارة قديمة؛ ولما سألتها باكيا مستعطفا عن سبب إصرارها على تنظيفي إلى هذا الحد الذي يؤلمني أجابتني بكل برود: غدوة باش تمشي تقرأ في المدرسة ويلزمك تكون نظيف!
نزل علي الخبر مثل الصاعقة وحاولت إثناءها عن مثل هذا القرار الغريب من خلال تذكيرها بأن ذهابي إلى المدرسة يتطلب أن يكون لدي حذاء على الاقل، ولكنها أجابتني وهي تلح في حك جلدي ببقايا الشكارة: البس صباط أبيِّك!! طيب قلت لها: وعلاش باش نكتب؟؟
لم ترد علي؛ بل أمرتني أن أنام فورا لأسيقظ باكرا
استيقظت قبل أن يؤذن الديك!
الحقيقة أنه لم يغمض لي جفن، لقد قضيت ليلتي أفكر في هذا المصاب الجلل الذي حل بي دون أبناء القرية، فالذهاب إلى المدرسة يعني التخلي عن عوالمي الريفية البديعة، رعي بقرتنا الوحيدة، وجلب الماء من عين دقة حيث أقابل أترابي، ولعب الكرة “كرة الشوالق”، في الحقول المترامية، ثم أنني كنت أعتقد وقتها أنني حصلت كل العلم الممكن من مؤدب القرية، بعد أن أصبحت قادرا على الكتابة، بل وحفظت نصف جزء عم! وهذا يكفي وزيادة كما أكد لي المنصف ولد عمي الذي كان يكرر أمامي أن أقصى ما يبلغه الإنسان من العلم هو فك الخط وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، الوالد أيضا كان من رأي المنصف ولد عمي ولكنه لم يجد بدا من مجاراة الوالدة التي كانت مصرة أنني من الممكن لو تعلمت أن أصبح “فرملي” أو معلما وربما كاتبا عند العمدة أو حرس مرور!!
استيقظت الوالدة وجهزت لي فطور الصباح ثم أمرتني بغسل وجهي وتسريح شعري، وكان عليها أن تتدبر الملابس اللائقة بطفل يدخل المدرسة!!
وسرعان ما اكتشفت أنني مخير بين أمرين: إما أن أذهب للمدرسة حافيا أو أن ألبس حذاء أبي القديم المتهرئ ذي المقاس 44!! لكنها تخلت عن هذا الخيار عندما وضعت إحدى قدمي في الحذاء، فقد بدوت مثل صاحبنا شارلو بحذائه الشهير!! تدخل المنصف ولد عمي واقترح أن ألبس “بوطه” الشتوي القديم المصنوع من الكاوتشو!! ومع اننا كنا في الفاتح من أكتوبر كما أذكر وكان الطقس شديد الحرارة، فلم يعارض أحد فكرة المنصف ولد عمي العبقرية، أصلا لم يكن لنا خيار آخر!
وبعد أن اطمأنت الوالدة إلى أن مظهري أصبح مقبولا بشكل ما، أردفني أبي وراءه على الحمار واتجهنا صوب المدرسة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock