مقالات

النهضة.. بنت ستّين كلب…

نور الدين الغيلوفي

“الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما”… (أبو العلاء المعرّي)
بعض الأصدقاء الافتراضيين والواقعيين يصوّبون “الزوم” إلى حركة النهضة.. مناظيرهم لا تلتقط سواها.. وآذانهم لا تصغي لغير صوتها…
جوقة بأكملها اختارت أن تجعل لها من حركة النهضة نشيدها الأزليّ كما لو كانت النهضة هي التشكيل السياسي الوحيد على وجه الأرض.. وكما لو كانت النهضة هي الأسماء كلّها لم يُعَلَّموا غيرها…

“النهضة صَفْتْهْا”.. “النهضة نَعْتْهَا”.. “النهضة فعلها”.. “النهضة تركها”.. النهضة عملت.. النهضة ما عملتش.. النهضة ساقطة.. النهضة لاقطة.. النهضة رافعة.. النهضة خافضة.. النهضة باعت الطرح وخذلت الثورة وساهمت في عودة التجمع ومستعدّة لاستقبال المخلوع بالأحضان وربّما تنادي يوما ما بتقديم الاعتذار له وإقامة سرادق عزاء للثورة ووأد القيم والمبادئ إرضاء له ولمن سبقوه بالعدوان على شعب تونس من لدن إبليس حتّى آخر رمق في منظومة الشرّ المتحكّمة في الكون..
النهضة مستعدّة لإهراق ما بقي في الكرة الأرضية من بقية القيم الفاضلة إرضاء للمنظومة القديمة ووفاء لجبلّتها المرذولة…
كلّ ذلك لأنّ النهضة خالفت أفق انتظار أنصارها وخصومها وأفسدت توقعاتهم وركبت موجة الواقعية وربما بالغت في واقعيتها حتى قدمت نموذجا “للبيوعة” والعملاء والغادرين المغادرين لسنوات الجمر والعذاب المتخلّين عن مواريث النضال.. والمتخلّين عن رفقائهم في النضال في أزمنة الجمر والقهر…
يا سيدي النهضة كلبة بنت ستّين كلب.. وقياداتها لا يَصلحون ولا يُصْلَحون ولا يُصلِحون.. هم خلاصة الشرّ في برّ تونس وما جاورها ومسؤولون عن أزمات الكرة الأرضية كلّها.. بل مسؤوليتهم تتعدّاها إلى فساد الغلاف الجوّي وإلى ثقب الأوزون…
تعالوا.. اجلسوا ثم هاتوا الحساب..
النهضة اختفت عن الأنظار أكثر من ربع قرن من الزمان والعصافير ظلّت تزقزق والناس عايشة تتفرّج على الألوان الطبيعية.. تأكل وتشرب وتسكر وتعيش وتموت وتبكي وتضحك وتتزوّج وتتناكح وتتناسل وتطلّق وترقد وتنام وتبني وتهدّم.. ترقص على الأنغام وتتزاحم على مشاهدة الأفلام.. ومن ريح السدّ إلى عصفور سطح إلى صمت القصور في بلاد تبني الجسور على القبور.. وكلّ شيء طبيعيّ كأنّ ظلما لم يُمَارَس على الرجال والنساء والولدان.. وكأنّ نساء لم يُرَمَّلن وأطفالا لم يُيَتّموا من آباء يعرفون أنهم على قيد حياة لا يرونها.. وكأنّ آباء وأمهات لم يتوفَّوا أعمارَهم وفي القلب منهم شهقة باسم ولد أودعه الظالمون غيابات السجون وحُرموا مرآه حتّى أذن الموت لهم بالمغادرة.. ومضوا وظلّ مكانهم فاغرا فاه على عدم ينام الولد ويفيق عليه…
وطيلة الدهر الذي اختفت فيه النهضة لم نلحظ في البلاد بطلًا واحدا قال: عيب هؤلاء كائنات بشرية مثلنا لهم ما لنا وعليهم ما علينا.. بل تحالف الجميع مع حامي الحمى والدين وجلسوا عند قدمي المخلوع يحمدون له فضل خلاصهم من الشيطان الأكبر.. دمّروا التعليم والثقافة والاقتصاد.. نهبوا الخيرات واستولوا على الخبرات.. وأفسدوا الشارع وأكلوا السحت وأطعموه الناسَ حتى تحوّلت البلاد إلى مزرعة للسّحت كبيرة..
وبينما كان أبناء النهضة تدافعهم السجون إلى السجون وتتناوبهم المنافي كان كبير الثوريين بعد أن خلا له الجوّ النضاليّ يتنعّم ِفي سِدْرٍ مَخْضُودٍ.. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ.. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ.. وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ.. وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ.. لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ.. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ في حِجْر خليل الخليع كمال لطيّف يصنع نسلَه تحت عينه في لحظة عناق ثوري إعجازيّة…
ثمّ جاءت الثورة وخرجت النهضة من العدم معفَّرة بتراب السجن وعليها من آثار السفر.. ككائنات بُعثت من خارج الأرض.. وشرعت في الحركة.. تعثّرت وقد غمرتها مياه الثورة فاجأتها كما فاجأت غيرها.. ثمّ أخذت في قراءة المشهد قطريا وإقليميا ودوليا.. تسلّحت بالصبر وقرّرت أن تحفر لها وجودا عند صخرة المستحيل رغم العواصف والأنواء وشراسة الأعداء.. وقد اختار الجميع أن يناموا في سُرُر الأعداء.. وضاق الخناق.. وضاق…
الثورات من حولنا جميعها فقدت سندها واشترك الفرقاء في تلويثها.. وتهافتوا عليها من كل ناحية وصوب..
الإخوان المسلمون أكبر فصيل سياسي في بلاد العرب تحوّلوا تحت مجنزرات العسكر إلى أثر بعد عين.. الجموع أُحرقت حتى كدنا نشمّ رائحة الشواء الآدمي المصري من هنا من تونس.. وأقيمت مآدب الروز والفاكية على مقربة من قاعة البرلمان لاستنساخ حفل الشواء العسكري المصريّ.. وتُرجمت أغنية “أحنا شعب وأنتو شعب” إلى “دمنا الأحمر ودمهم الأسود”.. وانفصل القمر (رمضان) عن الشمس (أوت).. وانتشر في البلاد مناخ للاحتراب وخيّمت على الجوّ سحب الكراهية حتّى حسبنا أنّنا قاب قوسين أو أدنى من حرب أهلية لا تبقي ولا تذَرُ.. لولا أنّ الله سلّم…
ولمّا انقلب السحر على السحرة وخرجت البلاد والنهضة من المضيق الخانق بأقلّ الأضرار وتحوّلت المعركة إلى الأدمغة وسلمت الأبدان تنفّس الناس الصعداء وخلدنا إلى هدنة نحتمي بها من هجير البغضاء المحتلّة للأمزجة والأذهان.. وقتها تغيّرت المعادلات واختلّت الموازين القديمة وجاءنا بالأخبار من لم نزوّد…
قد يكون الأمر في كثير من الأحيان مثيرا للريبة مستعصيا على الفهم يصل حدّ الإلغاز.. فبعد أن كان أنصار القديمة يتسلّلون لواذًا أُشرعت لهم الأبواب ليخرجوا من “فأريتهم” إلى “أسديّة” صنعها على مقاسهم بعض الثوّار واحتفى الإعلام بالأشباح والأشباه وصار المخلوع يُمَجّد في استفزاز صارخ للتونسيين بعد أن كان ممنوعا ذكره.. كأنّ ثورة لم تقم وكأن شبابا لم يُقنَص.. قد يكون الأمر كذلك ولكنّ بركان الثورة لا يزال يمور.. والعبرة بالمآلات لا بالمقالات.. والمآلات عند الشعوب رضي المجرمون أم لم يرضوا.. فنحن من أمّة، لو جهنّم صُبّت على رأسها واقفة.. فلا تهنوا ولا تحزنوا…
لمّا أدركت النهضة أنّ خصومها لن يهدأ لهم بال حتّى يستأصلو شأفتها ويفعلوا بها فعل العسكر بالإخوان في مصر، أدركت أن المعركة أوسع من الاحتمال وأكبر فغيّرت نسق سرعتها وأقدمت على مغامرة كبرى قلبت بها المعادلة التي راهن عليها المتربّصون بها.. منذ تلك اللحظة انقلب عليها كثير من الحلفاء والأنصار حتّى كأنّ قدرها أن تأكل عصيّا يكتفون هم بعدّها…
النهضة تشقّ طريقها وهي تدري أنّها محفوفة بالمخاطر.. تعلم أن الإكراهات أكثر من الخيارات.. وتدرك أنّها بما تأتي من سياسات تؤكل من أطرافها وتخسر من أنصارها.. العنتريات لا تعنيها.. إنّما الذي يعنيها أن تقاوم بما أوتيت من ذكاء ومن جهد.. وذلك حسبها…
البلاد أعدل الأشياء قسمة بين سكّانها ومن شاء أن ينجز عملا فلا رادّ لسعيه ولا مسفّه لحلمه…
دعوا النهضة وشأنها.. العنوها في سرّكم وفي جهركم كما شئتم ولكن لا تنفقوا وقتكم في ملاحقتها وإحصاء خطواتها عليها.. فإن هي أصابت في سعيها نجت البلاد ونجت وإن هي أخفقت مضت وحدها.. والتاريخ لا يرحم…
لا تجعلوا النهضة مشجبا تعلّقون عليه عجزكم أو حائطا للبكاء..
المدى أوسع من بكاء…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock