تدوينات تونسية

“أستاذي” يا “أستاذ”: أحبُّ ما أُنادى به

بحري العرفاوي
ذاك أحبُّ ما أُحِبُّ أن أُنادى به.. “أساذ” لا تذكرني بكوني مُدرّسا أو موظفا في وزارة التربية ولا تُعرّفني بكوني حاملَ محفظة أو متنقلا بين الصفوف في قاعة الدرس أو مارا بساحة المعهد أو واقفا أمام قاعة الأساتذة مع الزملاء.
“أستاذ” و”أستاذي” مفردة مثقلة عاطفةً ومنسوجة وشائجَ وبارقة أفكارا ومعانيَ.
كلما نُوديتُ “أستاذ” و”أستاذي” شعرتُ بارتجاج داخلي تمتزج فيه مشاعر الإعتزاز والنخوة والشرف بمشاعر “الخوف” و”الرهبة” و”المسؤولية” وأيضا بمشاعر المحبة والتلطف والترفق.
مسيرتي في التربية تمتد لـ ست وثلاثين سنة من بوعرادة التي باشرت فيها يوم 12 أكتوبر 1981 إلى كسرى التي قضيت فيها أجمل فترات شبابي أربعة أعوام إلى المرناقية التي استنزفْتُني فيها ثلاثة عقود كاملة… لم أشعر قط بقلق أو ملل أو خيبة أمل ولم أيأس من البحث عن “الإنسان” المُخبّإ في آلاف التلاميذ الذين جمعتني بهم “الحياة”… مسيرة التربية هي مسيرة “حياة” حين نستنبت الأفكار ونستولد المعاني ونترقى بالذائقة وننمي عواطف المحبة والشوق والرحمة فينا وبيننا.
كلما كنت بين تلاميذي شعرت كما لو أنني أحرس بستان زهر أو كما لو أنني أشتغل على طين طاهر أو أفجر في أعماق الأرض عيونا أحلم أن تكون زلالا.
تعاملت منذ البدايات مع تلاميذي بما هم أصدقاء وشركاء في الشوق إلى المعرفة وإلى “الإنسان” أتعامل معهم بنفس الملامح سواء داخل المعهد أو خارجه ولا أجد مسافة نفسية أو اعتبارية تفصلني عنهم ولا هم يجدونها أيضا لما يجدونه من وشيجة تمتزج فيها الفكرة بالمحبة.
“أستاذي” و”أستاذ”: يناديني كثير ممن ألتقي بهم وفيهم أمهاتٌ وآباءٌ وممن يتواصلون معي على هذا الفضاء الرحيب وليسوا كلهم ممن جمعني بهم “القسم” بل أغلبهم ممن جمعتني بهم “الصياغات” الأدبية والفكرية سواء في عالم الكتاب أو فضاءات “الكلام”.
في هذه العودة بإذن الله تعالى أُنهي مسيرتي “رسميا” وأبلغ في جوان القادم الستين سنة… لم أطلب التمتع بعرض وزارة التربية الأخير بتنفيل من هم في وضعيتي ومن هم بعدي بسنتين في حال قبول “التقاعد”… انتابني شعور بأنني أنسحب من ساحة معركة كما المهزوم -مع كامل التقدير والمحبة للزملاء الذين دفعتهم وضعياتهم إلى قبول العرض-… أجدني مُفعما بالمحبة والشوق والأمل مُنجذبا إلى عوالم الكمالات والمعاني والأفكار وإلى قداسة “الإنسان” كما عرفه لي الله ورسوله.
“أستاذي” “أستاذ” هي عندي شرفٌ يُريد أن يكون وريثا لشرف الأنبياء والرسل مبشرين بالحياة والأمل والمحبة والجمال والقيم والعدالة وأشواق التحرر.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock