تدوينات تونسية

خبزة الصباح في محاورة الأمل المعقود…

نور الدين الغيلوفي
عند خبزة الصباح لقيت صديقا.. بعد السلام وبعض الكلام بادرني: “تي وينك يا سي فلان؟ كنا نتزوّد من صفحتك ببعض الأمل نستعين به على هذا الواقع المخيف ولكنّك توقفت عن التزويد.. و”جبدت الفيشة” وتركتنا يُسلمنا الخوف إلى اليأس.. ألا تزال عند تفاؤلك؟”
1. المسألة ليست تفاؤلا ولا تشاؤما ولا مراوحة بينهما.. المسألة ببساطة أنّنا نعيش لحظة تحوّل تاريخيّة “تتعارك فيها الرياح”.. ولست أشكّ إطلاقا في أنّ الحسم وإن تأخّر سيكون لصالح الشعب وثورته.. وإلّا فلِمَ ردّدنا ولا نزال “ولا بدّ لليل أن ينجليَ” ؟ فإن لم نكن على يقين من انجلاء ليل الفساد والاستبداد فلم نركب موجة أمل لا نرى له مستقبلًا؟
2. لمّا كانت الثورة التونسية أمّ الثورات فقد نجحت حيث فشلت بناتها لأنّها هي النسخة الأصلية وغيرها توابع لها وتقليد.. وهذا الذي أقول به ليس حديث الأمانيّ ولكنه يقين بأنّ ما جرى، رغم عنف ما يواجهه، لن يعود إلى الوراء.. لقد نجحت الثورة في تفكيك منظومة القمع القديمة تلك التي كانت معقودة على شخص المخلوع رئيس النظام البائد.. ومهما كان من سوء إدارة الدولة في زمن الثورة ورغم فشل كثير من أبناء الثورة في الاستجابة لأشواق الجماهير ورغم تراكم المنغّصات فإن الثورة ماضية في فرض استحقاقاتها رغم الأهوال المحيطة ورغم ما يحاك في النور وما يُدَبّر في الظلام داخليا وخارجيا ورغم ما يبدو من علوّ أصوات البقايا وانخفاض أصوات أنصار الثورة…
3. إذا كان أبناء القديمة (والعبارة للروائي الكبير حنّا مينة من ورايته الشهيرة الياطر).. إذا كان هؤلاء، وقد فرّ زعيمهم وتركهم في العراء، لم ييأسوا ولا يزالون يحاولون الكرّ، ولا عنترة بن شدّاد لهم، فكيف لأبناء الثورة، بعد الذي قدّموه، أن يسمحوا لأنفسهم باليأس وللخوف بأن يتسرّب إليهم كأنّ رئيس نظام متجبّرا لم يفرّ أمام قبضاتهم وكأنّ منظومة للتعذيب لم تتفكّك وكأنّ جدران زنازينها لم تُطلَ لإخفاء آثار الجرائم؟
4. الثورة كالحرب طويلة الأمد لا تحسمها جولة لهذا الطرف أو ذاك على خصمه.. إنّما يحسمها الوعي والإرادة وطول النفَس والإنجاز ولو بعد حين.. وليس من اللياقة الثورية أن ينحشر أنصار الثورة في مربّع الرعب كلّما تقدّم أنصار المضادّة باتجاههم خطوة.. العامل النفسي مهمّ في مثل هذه اللحظة التي تمرّ بها البلاد والثورة.. ولا أظنّ أنّ المجرمين سيُترَكون ليستأنفوا فينا سيرتهم الأولى كما لو كنّا هشيمًا تذروه الرياح…
5. صحيح أنّ أنصار الثورة قد تفرّقوا بعد ما جاءتهم الحرية، وبدل أن يتحاملوا على أنانياتهم من أجل المصلحة الوطنية وبدل أن يتنازل بعضهم لبعض لإنجاح الثورة وإنقاذ البلاد من ويلات الاستبداد والفساد، أمسك بعضهم برقاب بعض وحوّلوا البلاد إلى ساحة للحرب بينهم حتّى مكّنوا أنصار النظام البائد من التسلّل وإعادة الانتشار بما يثبّط العزائم وينشر الإحباط.. كلّ ذلك صحيح ولكنّه ليس مبرّرا للخوف من عودة منظومة الفساد والاستبداد.. الخوف من جنود المعركة فلا تجعلوه في صفّ خصومكم…
6. قد تكون عودة بعض وجوه المخلوع إلى الواجهة ممّا يثير الاشمئزاز والريبة وربّما اليأس ولكنّ هؤلاء قد عادوا بغير شروطهم التي كانوا عليها.. ثمّ إنّ هؤلاء إنّما كانوا مجرّد موظّفين لدى المخلوع نجح في إخصائهم واستهلكهم من كثرة الاستعمال.. وإذن فلا خشية منهم رغم ما يراد بتسميتهم في مواقعهم ضمن التحوير الوزاري الأخير من الإيحاء بأنّ الثورة قد فشلت في فرض شروطها ورجالها وبأنّ ابناء القديمة قد انتصروا.. فلن يحالفهم النصرُ.. ودعك من هذيان الأبواق القديمة التي تزعم أن هؤلاء قد فرضوا أنفسهم بما لديهم من كفاءة.. فلو كان لدى هؤلاء كفاءة لما رضوا بأن يكونوا خدما لدى المخلوع وجواريَ لدى صاحبته وأدوات لبنيه.. ولو كان لديهم كفاءة لزرعوا بذرة الإصلاح وهم بين يدي كبيرهم الذي أشربهم الفساد وأرضعهم الذلّ…
7. ليس من المعقول أن نقف عند تصريح للرئيس العجوز يزعم فيه أنّ النهضة بقيت خارج جنّة المدنية التي يحتكرها توابعه والمحيطون به.. فالرجل قد بلغ من العمر أرذَله وما عاد له أنياب تُخشى بعد أن صار مستطيعا بغيره.. ولن يبقى ما يُخشى من منظومة الاستبداد الكريهة سوى ما يساوي الرصيد الافتراضي المتبقّي من عمره، أطال الله عمرَه.. ألم تكونوا تردّدون أنّ ثورتنا ثورة الشباب؟ فكيف يخشى الشباب المُقدِمُ الشيخوخَةَ المدبرة؟
8. الثورة نافذة مفتوحة على الحلم مشرعة على الأمل وليس لأحد أن يوصدها بعد أن فتحها الشعب الذي كان له من إرادته ريح عاصفة تجري بأمره إلى حيث الأمل المعقود برغم المنغّصات والعراقيل.. فلا تبخسوا الثورة حقّها ولا تستهينوا بإرادة شعبية تفجّرت ذات ديسمبر غاضب فأنجبت زلزالا متعدّيا لن تستقرّ الأرض بعد ثورته إلّا وقد تغيّر وجهها واهتزّت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج…
سلام على الثورة والثائرين

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock