مقالات

الفساد حرابة رسمية

أبو يعرب المرزوقي
مسألة محيرة: كم تكلف الدول الزائفة التي هي محميات في الحقيقة شعبها ليس لتحميه وترعاه بل لتستغله وتستعبده؟ وليكن مثالي تونس التي أدعي معرفتها.
فبلد دخله الخام دون الخمسين مليار دولار من المفروض ألا يكون له القدرة على حكومة وإدارة وأجهزة ودبلوماسية ودفاع بحجم يأكل الأخضر واليابس. فهذه الكلفة قد لا تبقي شيئا لتمويل الاستثمار العمومي الضروري حتى للبنية الأساسية الضرورية للاستثمار الخصوصي ككل مجتمع حديث يعمل بالقطاعين. علما وأن الحكومات في تونس لا تقتصر على المعلن ولا على المباشر من المنتسبين إليها بل هي تضيف إليهم المتقاعدين والحاصلين على الرتبة دون حقيبة. فيكون الوزراء في تونس عددهم يتجاوز المائة ثم ما ينوون القيام به من تمويل الدولة للأحزاب واللامركزية صارت الدولة دراكولا. ومحاربة الإرهاب الذي ينتج أساسا على عدم التنمية والبطالة وليس على العامل الإيديولوجي وحده تثقل كلفة الاجهزة الأمنية والدفاعية: لم يبق شيء.
والكلفة الخفية أكبر مما ذكرت: فلا يمكن لحكومات المحمية أن تجد سندا من الحامي بلا مقابل. والحامي مخمس الوجوه اثنان داخليان واثنان خارجيان واصل واحد.
وأبدأ بالخارجيين لأن الداخليين تابعان لهما: الخارجيان هما السلطة السياسية الحامية (المستعمر القديم) وأصحاب المصالح الاقتصادية من شركاته.
فلا بد لهم من جزية في شكل امتيازات وحماية لمصالحهم المقدمة على مصالح الوطن. من ذلك أن الشركات الفرنسية محمية لدينا أكثر مما هي في فرنسا. لكن وجهي الحماية الخارجية لها ممثلين هم أصحاب الحماية الداخلية وهي سياسية (حزب فرنسا أو أمريكا مثلا) وأولوية أدواتهم الاقتصادية في الصفقات. أما الأصل فهو ما يوحد ذلك كله أعني حاجة المحميات وبصورة أدق من يسلم لهم أمر إدارتها للحماية حتى يبقى الأمر بيدهم ولو بقمع الشعب وحرمانه. ويتجلى ذلك خاصة في الاستراتيجيات السياسية والتنموية التي هي وطنية بالاسم وهي من جنس القوانين التي تكتب بالفرنسية ولا تعرب إلا لاحقا. والقضية ليست قضية فن التحرير بمعنى أن المكلفين بصوغ الاستراتيجيات والقوانين تعلموا عملها بالفرنسية بل لأن المشروع من نفخ الحامي في المحمي.
ولست أتهم أحدا بالخيانة لأن الكثير يفعل ذلك بحسن نية على الأقل الإداريين والتقنيين كما يحصل دائما في الإصلاحات التربوية والخطط الاقتصادية. وإذا ما استثنينا مافيات الدولة العميقة فإن البقية صار الأمر عندهم عقيدة وعقدة: إذا كنا نريد أن نكون حداثيين فلنأخذ عن فرنسا ولو بغباء. ومثل هذه العقيدة العقدة لا يمكن ألا تكون دالة على الغباء. ذلك أن التخطيط التنموي الفرنسي قد يكون صالحا لفرنسا لكنه حتما لا يصلح لغيرها. إذ من خصائص التخطيط التنموي ألا يقتصر على العموميات الشكلية بل هو بالأساس محكوم بالمحددات المضمونية: فهو هندسة تطبيقية وليس معادلات مجردة. فلا يكفي فيه البنية المجردة للقوانين الرياضية -وهي ضرورية- بل لا بد من القيم المحددة التي تملأ بها خاناتها لتطابق المتطلبات العينية للظرفية. لكن ما الحيلة إذا كان المهندس غبيا يكتفي بتطبيق الصيغ المستوردة في التخطيط التنموي والتربوي والقانوني دون اعتبار القيم العينية في الخانات. وكان الأمر يكون أقل خطرا لو كان ذلك يقع عن جهل وحسن نية -وفيه شيء من ذلك أحيانا- لكنه يقع تلبية لحاجيات الحماة الأربعة أكثر من حاجيات الشعب.
وتلك هي علة كون تونس بعد ستين سنة من الاستقلال وبنفس المنطلقات ولعلها أحسن ظلت دون ماليزيا مثلا لأن نخبها اكتفت بفترينا وإيديولوجيا الحداثة. فميزانية رئاسة الجمهورية والوزارة الأولى توهم بأن تونس بلد نام يحق له أن يحكم بكلفة هي عين الاستهزاء بالعاطلين من قوته العاملة: ثلثها.
لا أدعي علما لدنيا في الاقتصاد. لكني أفهم أن بلدا بحجم تونس كلفة إدارته لا ينبغي أن تأكل جل انتاجه في مظاهر دولة هي في الحقيقة قرية محمية. عشرة ملايين من السكان لا يمكن ان يعدو دولة في عصر العماليق وهي من ثم قرية محمية ولا معنى لأن يكون لها مائة سفارة فيذهب زيتها في تزييت أصابعها. وألا تعتمد خطتها التنموية على الخدمات الهشة كالسياحة التي تكلف أكثر مما تدر فينزل الدينار لعشره: بما تكلفه من ماء وغذاء وما تجره من بلاء. فالسائح الذي يقضي اسبوعا مع النقل ذهابا وإيابا وفي تونس بما لو حسب بالدينار لكان دالا على بيعه بعشر قيمته خدمة ندفع مقابلها ولا نربح منها. وإذن فهي طريقة في جعل المستثمرين فيها يحلبون الشعب مثلهم مثل المستثمرين في الأحزاب والخدمات الأخرى والتوظيف المشط في الدولة وشركاتها.
ولهذه العلل كلها سأقترح إصلاحا للدولة والخدمات يكون مناسبا لإمكانات الشعب وبصورة تجعل الدخل القومي الخام قادرا على شروط التنمية الفعلية. وبالمناسبة فستكون فطاما لكل من يتخذ السياسة مطية للثراء. ينبغي أن يكون هذا الإصلاح حادا من التكالب عليها: لن يقبل إلا المؤمن بخدمة الجماعة. في العالم الذي تقدم علينا كانت البرجوازية هي التي تبني الدولة حتى وإن أربت بذلك ثروتها. أما نحن فـ”الاترار” صاروا برجوازية بحلب الدولة. وليس صحيحا أن الفساد سببه الاقتصاد الموازي بل فساد الدولة هو سبب الاقتصاد الموازي: إنه حرابة متخفية. وقد قال ابن خلدون قولته الشهيرة فيها. قال إن الحرابة (سرقة عنيفة) ما كانت لتحصل من دون أحد أمرين إما عجز الدولة في غايتها أو فساد الدولة في بدايتها لمشاركة القيمين عليها فيها.
الموازي بدأ بمشاركة القيمين على الدولة فيه ثم تغول فأصبح هو الحاكم في الدولة بعد أن صارت الدولة هي بدورها ضيعة الفاسدين ورزق آبائهم.
وللحرابة أو الاقتصاد الموازي شكلان: في الأسواق وما في شركات الدولة وإدارتها وأجهزتها من توظيف من لأقرباء من بيدهم السلطان السياسي والنقابي. فكل شركة تغرق لأن الموظفين فيها أضعاف حاجتها وهم كذلك لأن المشرفين عليها ليسوا خدما لها بل مستخدمين يرضعون الدولة بتوسطها: هذا هو الفساد.
ولأبدأ بالحكومة: ميزانية تونس لا تساوي ميزانية شركة كبرى ومن ثم فتسييرها لا يحتاج لجيش من الوزراء. احدى عشر وزيرا كافون وزيادة لوظائف الدولة.
فلا بد من خمسة للحماية: القضاء والأمن داخليا والدبلوماسية والدفاع خارجيا، ثم الاصل الجامع حتى يكون عملهم على علم وزارة الاستعلام والاعلام.
ولا بد من خمسة وزارات للرعاية: التربية والشؤون الاجتماعية للتكوين الثقافة والاقتصاد للتموين وأصل الرعاية عملا بعلم: البحث والإعلام العمليان.
وعلى رأس هذه الوزارات العشر لابد من رئيس ينسق عملها وهو في نفس الوقت قيم على مالية الدولة لأن التوزيع والتحكيم بين الوزارات يعود إليه.
وكل الجيش من الوزارات الحالية يتحول إلى إدارات تابعة لهؤلاء بحسب الاختصاص. مثال: الاقتصاد تخطيط حكيم وعليم بالإنتاج والتوزيع والتموين.
مثال ثان: التربية تشمل مستويات التعليم الخمسة: ما قبل الابتدائي، الابتدائي، الثانوي، العالي وما بعد العالي أو التكوين المستمر. وزارة واحدة كافية.
ثم كل وزير لا ينبغي أن يتجاوز ديوانه أربعة أعوان هو رئيسهم واحد للإدارة والثاني للعلاقة بالحكومة والثالث للعلاقة بالمجلس والأخير بالشعب.
وينطبق ذلك على رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية. لكل منهم أربعة أعوان لا غير. ولا يعقل في بلد فقير أن يكون أجر الرئيس مائة مرة الأجر الأدنى.
ولا يعقل أن يكون لتونس ثلاثة رؤساء وعشرة رؤساء حكومة. كل من غادر المسؤولية يعود لعمله الأصلي وأجره فيه. ويلي ذلك تسريح كل من لا تحتاجهم الإدارة. وهم تقريبا نصف جيشها الحالي. ويلي ذلك تسريح كل ما لا تحتاج إليه الشركات الوطنية وهم أكثر من نصف حاجتها. وتساعدهم الدولة في الرزق بصورة أخرى. ذلك ان الشركات الوطنية عندما تخف عليها كلفة التأجير الزائدة ستصبح رابعة فيتطور النقل مثلا وينتدب لسد الحاجات من هؤلاء المسرحين مثلا.
وسأضرب مثالا أنا داربه إلى حد كبير: أجزم أن أكثر من صف المعلمين في كل مستويات التعليم يمكن تشغيلهم فيما يفيد التعليم بإنتاج شروطه المبدعة. وشرط ذلك تخفيف في الحشو في مضمون التعليم وتثقيل في مدة العمل. لم أر إلا في النظام الفرنسي الحد من عمل الأستاذ الجامعي بهذه الصورة. ولا مانع من تحسين الأجور مقابل زيادة ساعات العمل للمعلمين في كل المستويات مع تخفيف المضمون المعلم الذي صار حشوا عديم الفائدة والتكوين السوي. وما أقصده بتفريغ نصف المعلمين الحاليين إلى شروط التعليم السوي يتلخص في أمرين: إنتاج أدوات التعليم ومواده. وليكن مثالنا التعليم الجامعي. والأمر لا يقتصر عليه: فالجامعات العربية لا تنتج أدوات عملها بل تستوردها. وفيه خطران: اقتصادي وثقافي. عملة للاستيراد واغتراب لعدم التعريب.
والمطلوب عملان:
إنتاج ما يقدرون عليه من أدوات التعليم ووثائقه الضرورية بحسب الاختصاصات.
وترجمة ما لا يقدرون على إنتاجه مواكبا لمستوى العالم.
فتكون كل جامعة وكل مدرسة ثانوية وابتدائية مركز بحث لتحقيق هذين المطلبين حتى لا يكون الكل عارض للموجود من المعرفة بدل المساهمة في إنتاجها. وبذلك فمهمة المعلم تخف لأن مؤسسة تنتج له ما يحتاج إليه ولأنه بالتداول ينتقل إلى هذا الدور بإيقاع يجعل الجميع يسمع في التعليم وفي الإبداع.
ونأتي الآن إلى المهمة الأخطر التي تتعلق بالأمن والدفاع: فهذان أصبحا مكلفين كثيرا لعلتين. ففي مجتمع الحرمان يصبح الأمن والدفاع مهمة عسيرة. والعلة ليست الحرمان بحد ذاته بل علله: فالجميع مستعد للصبر على الحرمان لو كان لغاية في خطة تقضي عليه بالعدل بين المشاركين في تحقيق الغاية. الفترينات التي تنتجها المجتمعات العربية دعوة لثورة المحرومين. ذلك أنهم يرون بأم أعينهم أن حكامهم ينهبونهم ويشاركون أعداءهم في نهب ثرواتهم. وكلما كانت الثروات أكبر بات الحرمان أكثر تحريكا للمحرومين لأن الظلم يكون في تناسب معها: كيف يصبر على الجوع من بلده ينتج عشرة مليون برميل؟ والعكس صحيح: كيف يقبل الإنسان أن يرى شعبا جائعا نخبه الحاكمة تعيش أفضل من حكام أغنى دول العالم بوقاحة دعاة فجرة يمدحون الفقر كما في مصر؟
ونأتي إلى القضاء والدبلوماسية. أولا النظام القضائي في بلد كتونس مثله مثل النظام الصحي يقلدان فرنسا، في تونس فأصبحا نكبة على العدالة والصحة. بنية تعنى بالوقاية والمستوى الأولي من الصحة والأدوية الرئيسة مع نظام غذائي مراقب يقلل من الأمراض والعدوى فيخفف من كلفة الصحة إلى حد كبير. لعبة القضاء والمحاماة في تمديد المنازعات لحلب المواطنين يجعل النوازل تتراكم ويحط من العدالة وخاصة من شفافيتها ونظافتها. وهذا أخطر من الظلم. لذلك فلا بد من وضع قانون لا يكتفي بالإجراءات المتعلقة بالمتنازعين بل أيضا بالحكمين: القاضي والمحامي. وليس ضروريا أن يتوالى التعدد في القضاء. والتزامن لا يقتضي ألا تتدخل الدرجة الثانية إلا بعد نهاية الأولى بل تعملان بانفصال في نفس الوقت. إن تطابق حكمهما حسم الامر وأغنى عن الثالثة. المهم أن يحسم القضاء المدني بأسرع وقت حفاظا على مصالح المتنازعين وتجنب الابتزاز ممن يستعمل القضاء للربح. ومن ينكر ذلك لا يريد الإصلاح. ولن يظلم أحد إذا عملت محكمتان في نفس الوقت وبانفصال وحصل التطابق في الحكمين فنربح أكثر من سبعين في المائة من وقت التنازع ويخف عمل القضاة. والشيء الثابت أن القضاء في بلاد العرب وعلى الأقل ما أعلمه من قضاء تونس يفقد أي مواطن صبره وخاصة الفقير المظلوم وقد يدفعه إلى أخذ حقه بيده. فإذا تحقق العدل وقل العنف يقل اللجوء للقوة والامن. لكن تصور الأمن مقصورا على الوازع الأجنبي خطأ سياسي وخلقي. الأمن في النفوس قبل الفلوس.
لذلك فلا بد من وضع قاعدة ذهبية: لما كان الأمن ممثلا لقوة الدولة الشرعية فكل مستعمل بغير شرعية يعاقب بضعف عقوبة المجرم العادي في تلك الجريمة. وعندئذ يصبح الجميع رعية وراعيا كما ينبغي أن يكون عليه الأمن في جماعة الاحرار الذي لا يكون فيها لصاحب القوة الشرعية سلطانا غير شرعي عليهم. وأساس ذلك كله قرار شعب أن يتدارك ما فاته من بناء في مشروع بقيادات قادرة على إقناعه بالأفعال: فالشعوب تضحي عندما تكون قيادتها نظيفة وصادقة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock