تدوينات تونسية

سعيدة قرّاش تعيد إلى الأذهان سيرة سعيدة ساسي

صالح التيزاوي
تفاجأ التونسيّون في بداية الثّمانينات بساكنة جديدة تدخل قصر قرطاج. بدأ يذكر اسمها وتظهر إلى جانب الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة على امتداد الفقرة اليوميّة التي يخصّصها “محمّد رؤوف يعيش” من شريط الأنباء لتغطية نشاط الرّئيس وهو يسبح او هو يقوم بجولته اليومية او هو محاط بوزرائه ومستشاريه. وهو يلوّح في وجوههم بيده حينا، وبإصبعه الوسطى حينا آخر، وربّما بعكّازه إن اقتضى الأمر ذلك.
بدأ اسم “سعيدة ساسي” يتردّد كثيرا في نشرات الأخبار حتى طغى على أسماء هامّة ومعروفة مثل “وسيلة بورقيبة” و”محمّد مزالي” وحتى “الحبيب بورقيبة الإبن”. لم يكن لسعيد ساسي مهمّة سياسيّة محدّدة ولكنّها كانت تدبّر الدّسائس والمؤامرات كما في الأساطير حيث كانت تولّي وتعزل. والرّئيس الطّاعن في السّنّ يوقّع. انتهى أمر دسائسها إلى طلاق “الماجدة” وإخراجها من قلب الرّئيس ومن قصره. ليتمّ أيضا إبعاد محمّد مزالي من الحكم إلى المنفى. سعيدة ساسي كما ليلى الحجّامة كما سعيدة قراش، ربّما جمع بينهنّ وهم التطلّع إلى دور “المراة الأسطورة” التي تريد أن يخلّد التّاريخ ذكراها كما خلّد أخريات لعبن أدوارا سياسيّة في قصور الحكم. سعيدة ساسي جعلت من رعاية خالها مدخلا إلى بسط نفوذها في القصر، والحقيقة أنّ الأجواء كانت تساعد على ذلك: حزب واحد وزعيم أوحد.
كان أكثر من رئيس وأكثر من عاهل، تجمّعت كلّ السلطات بيده: سلطة الباي وسلطة المقيم العام، وزاد سلطة الرّئيس. سعيدة الأولى لم تكن نهايتها سعيدة، حيث أبعدت مع خالها بقسوة من قصر قرطاج، لمّا أطاح المخلوع بحكم خالها وانتهى بها الأمر إلى الإصابة بمرض “الزهايمر”، فحرمت حتى من لذّة الأنس بالذّكريات الجميلة حتّى وافاها الأجل العام 2007. منطق “سعيدة الثّانية” ليس بعيدا عن منطق “سعيدة الأولى” على بعد المسافة الزّمنيّة بينهما: التّعالي على الشّعب والغرور بعنفوان الزّمان والمكان. نفس المنطق الإستبدادي “من لا تعجبه المساواة في الميراث فهو داعشي، وعليه أن يرحل من تونس”. هكذا كان منطق المخلوع : “من لم يكن معي فهو ضدّي” ومن لم يرقص على شعار “الزّين ما كيفو حد” ومن لم يبد حماسة ونجابة في المناشدة فهو “متستّر بالدّين او بحقوق الإنسان ومتطرّف”. وكم ذهب من الأبرياء وراء القضبان بسبب تلك التّهم الكيديّة اللّعينة.
سعيدة ساسي كانت تستمدّ مكرها من سلطان خالها. أمّا سعيدة النّداء غاب عتها أنّها دخلت قصر قرطاج بموجب ثورة على المخلوع وفي سياق ديمقراطي وتوافقي وفي واقع حكومة وحدة وطنيّة وبرلمان متعدّد ودستور جديد قطع مع الإستبداد. وأقرّ بأن الشّعب هو صاحب السّلطة. واعترف للمواطن التونسي بحقوقه الأساسيّة التي لم تكن سعيدة ساسي تقيم لها وزنا. فهل يحق لقراش ان تخيّر مخالفيها في الرّأي بعد ثورة الحرّيّة والكرامة بين “داعش” او “ترك الوطن”؟ هذا الحقّ أكبر منها بكثير تماما مثل نظام المواريث. المواطنة حقّ وليس شهادة نعطيها لمن نحب، ونسحبها ممّن يخالفنا الرّأي. أليس هذا جوهر الحداثة التي ينشدها البعض من طريق تعطيل نظام المواريث في الإسلام. ليس منّا من هو “ملّاك” ومن هو “كرّاي” في هذا الوطن. كلّنا “ملّاكة” على مذهب الثّورة والدّستور في وطننا. شاءت سعيدة أم أبت. لأنّ مهمّتها كمستشارة لا تعطيها حقّ الإستبداد بالرّأي والتّعالي على التونسيين أو نعتهم بالإرهاب كما يتردّد على لسان بشّار والسّيسي. فتلك إساءة بالغة بحقّ الثّورة ودماء شهدائها أوّلا، وبحقّ الدّيمقراطيّة النّاشئة ثانيا وبحقّ الدّستور ثالثا، وبحقّ التونسيين رابعا. إذا كان كلّ من لم يعجبه قانون المصالحة، يجب عليه أن يترك الوطن ومن لم تعجبه فكرة المساواة في الإرث عليه بمغادرة الوطن ومن لم يعجبه خطاب الرّئيس فعليه بالرّحيل ومن لم يعجبه كلام السّيدة المستشارة عليه ان يترك الوطن، ومن لم يعجبه تكتيك الثّورة المضادّة، عليه بالرّحيل. ومن يتمسّك بنظام المواريث كما أوصى به خالق العباد عليه بترك الوطن. فمن سيبقى في هذا الوطن؟
مواطنون في وطننا، لا رعايا، ولا كرايا، ولا ذمّيّون…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock