تدوينات تونسية

لماذا الإرث بالذّات ؟

سامي براهم
لماذا الإرث وليس الإماء والعبيد والجلد وقطع الأيدي وتعدّد الزوجات…
بقطع النظر عن جدل الإرث هذا السؤال المتردّد الذي يحتجّ به دعاة “التسوية” ينطوي في تقديري على عدد من المغالطات والإخلالات المنهجيّة والمعرفيّة :
1. الشعوب تُحكَم بما ترتضيه من قوانين أو بما يُفرَض عليها قسرا وقهرا.
في الحالة الأولى قد يكون الرضى من خلال القبول الطوعي الجماعي لما أقرّه أهل القانون والتّشريع أو أهل السياسة وتزكيته تزكية معلنة أو سكوتيّة، أو من خلال حوار مجتمعي يفضي إلى إقرار ما يعبّر عن الضٰمير العامّ، وتثبيته في التشريعات المعتمدة كنتيجة لضرب من الإجماع والاتفاق، وهو اتّفاق يتأثّر باعتبارات متعدّدة يتعلّق بعضها بتطوّر المعرفة أو الوعي أو الواقع.
2. دارسوا مدوّنة التشريعات الإسلاميّة والدراسات الحديثة والمعاصرة التي تناولتها يلاحظ تطوّر النظر لعديد المسائل خاصّة المتعلّقة بالحدود والعقوبات المغلظة والتشريعات سواء على مستوى التّأويل أو التنزيل، بما يسّر تطوّر النّظر لها بما لا بتناقض مع روح النصّ ومقاصده وساعد على تقبّل ما اقتضاه الواقع من حاجات جديدة تنسجم مع ضميرهم العام، لذلك لم تجد عدد من المجتمعات غضاضة في تغيير بعض من أنماط حياتها وفق تأويلات تشريعيّة جديدة.
3. في علم أصول الفقه ومن خلال معايير مراتب الأدلّة من حيث البيان تعتبر الأرقام والأعداد والألقاب “أب أمّ أخ أخت ابن بنت زوج زوجة…” من أعلى النصوص تعيينا للمعنى وتعبيرا عن الدّلالة القطعيّة لذلك تضيق مداخل الاجتهاد فيها سواء من حيث التّأويل أو التنزيل على خلاف غيرها من المسائل القابلة لأقدار من الاجتهاد قد تصل إلى التعطيل “حدّ السّرقة” والإلغاء بالكليّة “العبوديّة”.
4. اقتضى حجم تطوّر الواقع في الزّمن الرّاهن إلى تغيير كلّي أو جزئي لعديد أنماط السلوك والتّشريع بل إلى استحداث أنظمة ومؤسسات جديدة خاصّة في ظلّ الفراغات التشريعيّة وعدم مواكبة الفقه القديم للنسق المتطوّر والسّريع للواقع، هي معطيات تتعلّق بقوانين السوسيولوجيا وحراكها الدّاخلي.
5. ثقل تأثير الغالب صاحب الحضارة الصّاعدة على المجتمعات المغلوبة ممّا أربك المنظومات التشريعيّة القديمة وساهم في خلخلتها ودفعها إما للتوفيق والتأصيل أو التجديد الجزئي أو الشّامل.
كلّ هذه المعطيات تفسّر لماذا ترضى المجتمعات تغييرا في نمط تفكيرها وعيشها وانتظامها وتشريعاتها في مسألة دون أخرى، لذلك لم يناهض التّونسيّون إلغاء الرقّ فزكّاه وجهاء البلاد وعلماؤها وعموم شعبها، ولم يحتجّوا على إلغاء العقوبات المغلّظة التي كانت سائدة بينما لا يزال ضميرهم غير مهيّأ لإلغاء عقوبة الإعدام، ولم ينتفضوا لإلغاء تعدّد الزوجات لأنّ للمسألة سابقة في التّاريخ “الصّداق القيروانيّ” كما أنّ نسبة التعدّد في البلاد لم تكن تتجاوز الواحد بالمائة فكان المجتمع مهيّأ للإلغاء، وقبلوا بخروج النساء من البيوت واختلاطهنّ بالرّجال…
تطوّر التشريعات يجب أن يعبّر عن حاجة جماعيّة حقيقيّة وموضوعيّة وواقعيّة لذلك، يعبّر عنها أهل الرّأي ويجسّدها أهل السياسة والقانون، التشريعات التي لا تكون محلّ رضى جماعيّ بل وتُواجَهُ بمناهضة عامّة لا تعبّر عن حاجة مجتمعيّة ملحّة، يمكن فرضها بقوّة الدّولة الاستبداديّة القهريّة أو الدّولة الرّاعية التي تؤمن بأسبقية القانون على وعي المجتمع وقد يؤدّي ذلك إلى إرباك المجتمع وجعله في وضع تمزّق وازدواج معايير أو تطوّر قسري فوقيّ لا يراعي نسق تطوّره.
عندما يكون هناك انقسام مجتمعي حقيقي في مسألة من المسائل إمّا أن تحسم الأمور بالمغالبة أو الحوار أو الاستفتاء كشكل من أشكال الحسم في المنظومة الدّيمقراطيّة،
جدل الإرث لا يعكس في تقديري انقساما مجتمعيا ولم ينطلق ابتداءً من خلال حوار مجتمعيّ، بل كان رغبة فجائيّة عبّر عنها رأس السلطة بتزيين من محيطه لغايات يتداخل فيها السياسي والدعائي والذّاتي والضغط الخارجي، لذلك لن تتحقّق فيها نتائج نوعيّة تكون محلّ رضى مجتمعيّ وستعتبر لو فرضت في إطار التوازنات المختلّة استهدافا لهويّة المجتمع واستقواءً عليه بالسلطة من طرف نخبة مقطوعة عن الوعي الشعبي تعوّدت على تمرير رؤاها من خلال الاستنصار بالدّولة، وهذا كان يسيرا في مرحلة ما قبل الثورة قبل أن تتحرّر الإرادة العامّة ويصبح لها واجهات متعدّدة للتعبير والتعبئة في هذا الاتّجاه أو ذاك.
مختصر القول إمّا أنّ مسالة الإرث بدون وجاهة معرفية ولا تعبّر عن حاجة واقعيّة حقيقيّة أو لم تطرح بالشكل يعبر عن ذلك أو طرحها لا يزال مبكّرا أو هو مسألة زائفة من الاساس وليست سوى جزءً من استراتيجيا انتخابية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock