تدوينات تونسية

في زمن صار اليوم يبدو لي بعيدا، بعيدا جدّا… كانت لنا حياة أخرى !

عبد اللطيف علوي
كانت الأعراس في القرية حدثا غير عاديّ، نعيش على وقعه قبل الموعد بأيّام، وكان العرس بالنّسبة إليّ، يعني شيئا آخر، فريدا من نوعه.
كانت “داده” تصبح أجمل بكثير، حتّى لكأنّي أكاد أشعر أنّها هي العروس، ولم تكن في الحقيقة تتزيّن بشكل مبالغ فيه أو تتعمّد أن يلفت النّظر، كانت فقط تلبس جديدها القديم، وتضع على رأسها شالها الأبيض، وتلوّن شفتيها ووجهها وعينيها بابتسامتها العذبة الغالية الّتي تكاد تنساها أيّام الكدح والشّقاء، ونكاد ننساها…
لم تكن تحتاج إلى أكثر من ذلك كي تتزيّن للعرس، تتزيّن من الدّاخل، فأشعر وأنا أقف أمامها بقامتي القصيرة، أنّها الحوريّة الّتي يرسلها الله في الأعراس، لتنثر على القرية طلع الفرح والسّكينة والسّلام.

حين يضرب الطّبّال، وتبدأ السّهرة في اللّيل، كنت أقف إلى جانبها بشكلي المربّع المضحك، وأمدّ إليها يدي، فتسحبني في الظّلام من خلال أجنّة الزّيتون وتسير بي بين السّواقي والمروج، وأنا أفتح عينيّ فلا أرى شيئا، لكنّني أشعر أنّها حاميتي، وأنّني لن أسقط مهما تعثّرت مادامت يدها تمسك بيدي ولا تفلتها، ومادامت رائحتها تحفّني وتعطّر الفضاء من حولي…
حين نصل إلى بيت العرس، تجلس هي بكامل وقارها وفخامتها حيث تجلس النّساء، وأجلس أنا في حجرها أنتظر أن يقرع الطّبل كي أنام…
نعم… لم أكن أفعل شيئا طيلة السّهرة سوى النّوم في حجرها، أتكوّر حول نفسي مثل كبّة الصّوف وأنام في حجرها، أو أنام جالسا مفتوح الفم وهي تضمّني بيدها اليسرى في حين تترك اليمنى لتربّت بها أحيانا وتشير بها في الحديث إلى جاراتها دون انقطاع… 

ولم أكن أستيقظ إلاّ حين يسكت الطّبل و”تفرق الفزعة”، فأفتح عينيّ مدهوشا أتلفّت بجانبيّ لا أعرف أين أنا وما الّذي جاء بي إلى ذلك المكان الغريب، ومن هم هؤلاء الغرباء المتنكّرون… أنظر إلى الطّبّال وهو يجلس على الكرسيّ يعدّل جبّته وشاشيّته ويحكّ بطنه، وإلى الزّكّار يمسح العرق كأنّه خارج لتوّه من حصّة تعذيب في جهنّم، وأرفع عينيّ بين النّساء أبحث عن “داده”، فتمدّ لي يدها لتحملني على كتفها وأنا بين صاح ونائم، أغمض عيني من جديد وأرخي رأسي على كتفها، ولا أستيقظ إلاّ صباح اليوم الموالي في فراشي… فأشعر أنّني بتّ ليلتي كلّها في حضن ملاك، أرسله الله إليّ ليلة البارحة، صعد بي إلى أعلى سماء، وفرش لي حضنه بالأعشاب وغطّاني بالغيوم والضّباب وبات يحرسني حتّى الصّباح…
أركض إلى “داده”، فأجدها في السّانية، تمسك المسحاة أو الرّفش وقد تغيّرت سحنتها تماما، واستعادت ملامح القسوة والشّدّة والصّرامة، وتلطّخت قدماها بالطّين ونزعت عنها شالها الأبيض وابتسامتها الوديعة الحانية، وعادت إلى الأرض دودة من ديدانها، تشقّ طينها وترابها وتفتّت صخورها كي تستمرّ الحياة… 

البارحة، حلمت بـ “داده”…
رأيت نفسي صغيرا، في مثل ذلك السّنّ البعيد، ورأيتها تطلّ عليّ من السّماء بوجه يملأ السّماء، تلبس العشب والسّواقي والمروج، وجهها أخضر طريّ ناعم كما لم أره في حياتي، رأيتها تمدّ إليّ يدها وتستحثّني كي أصعد إليها وهي تقول:
ـ ألم أقل لك إنّ الحياة هنا أجمل بكثير، تعال انظر بنفسك… والله إنّك لن تندم، تعال ولا تخف!… ألا تريد أن تنام؟
ورأيت يدي تتراخى، وأتراجع إلى الخلف رغم أنّ كلّ جوانحي تخفق إليها، وأقول لها:
ـ “داده”.. نحبّ نجيك… آما… خلّيني نزيد نلعب شويّة.
وصحوت… وبي كلّ هذا الألم… أنّني أفلتّ يدها.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock