مقالات

الإخلاص للأمة ما علاماته القريبة وثمراته البعيدة ؟

أبو يعرب المرزوقي
كيف نفهم صبيانيات الإعلام العربي والنخب السياسية التي تستعمله منذ أكثر من سبعين سنة؟
كيف نكصوا إلى معارك الشباب الطائش في الأحياء الشعبية؟
فما كان يجري بين انظمة العسكر العربية ذيلا لقطب الشرق، وانظمة القبيلة العربية ذيلا لقطب الغرب يجري فيهما كليهما وقد أصبحا ذيلين لذراعيهما؟
فأصبحت إيران وإسرائيل تمثلان قطبي الإقليم، والأنظمة العربية العميلة بصنفيها أصبحت مجرد أدوات لهما في سعيهما لاسترداد إمبراطورية قورش وداود.
وما يدهشني إلى حد الإذهال هو تفاخرها المتبادل ببطولات وهمية ضد سيد الكل في الإقليم: مقاومة الشيطان الأكبر ومؤامرته ضدهم: مؤامرة ربيع الإخوان. وهذا التدني بدأ من علمانيي تونس وقومييهم: فهم أول من أدخل الكلام في الأعراض والمعايرة بدور أم أمير قطر بعقلية تهاوش الصبية في الأحياء الشعبية. وهم أول من كان يدعو إلى التضحية بعشرين الفا من الاسلاميين حتى يستعيدوا سلطانهم الذي لا يتجاوز الأكل من فضلات المافيات التي أعادوها إلى الحكم. وهم اليوم الذين أنشأوا مئات الأحزاب التي تمولها المافيات والذراعان (إيران وإسرائيل) حتى يجعلوا حكم البلاد مستحيلا لجعل الديموقراطية فوضى.
ثم عم المرض فأصبح الخليج فالحا في بناء دعايته ضد الإسلام والإسلام السياسي بدعوى العلمانية: وزير خارجية قبيلة يدعي أن الرابوع يريد أنظمة علمانية. لم اصدق الخبر وظننت أن البعض يزايد لبيان فقدان الرابوع أدنى درجات العقل: فإذا بالأمر حقيقة لا جدال فيها والرجل يتوهم أن سامعيه يصدقونه. في بلد حراسة حكامه مرتزقة أجنبية -مثل ما وصف ابن خلدون في ذروة الانحطاط- يتكلم الرجل على دولة علمانية لكأنه توجد دولة أصلا في المحميات. ولا يعنيني في أي بلد عربي يجري مثل هذا الامر فهو عام فيها ولا يحتاج المرء لذكر أي منها: لا توجد دولة عربية في أي قطر. مافية تحكم محمية بس.
وكان يمكن أن أفهم ذلك لو لم يمض على ما يزعم استقلال المحميات العربية قرنا إلا ربع. والغريب أن اللحمة الثقافية والروحية تتخلخل ولا تتمتن. وإذا كنت أذكر الجزيرة فأشكرها فلمحافظتها على لسان العرب وعلى تعاون شبابهم في إشعار الشعوب بوحدة المصير رغم ما عليه أنظمتهم من سوء التدبير. ولما تكلمت على محاولة استعمال أدوات التأثير الحديثة للوعي بوحدة المصير ونسبت ذلك إلى قطر فللإشارة إلى الوعي بأدوات الفعل بالقوة اللطيفة. فمن لجأ إلى ما في مستطاع الدول الصغيرة، حكيم لأنه وإن بدا مثل غيره في محمية فهو يحاول بناء شروط الخروج من هذه الحال بأدوات الفعل اللطيفة.
والدليل على أن خطته نجحت أنها اليوم تعتبر المستهدف الأول من الذين يحاصرونه أدوات لمن يحركهم في الإقليم ولمن يحرك من يحركهم في العالم. العدو الأول للرابوع الذي يدعي وزير خارجية زعيمتهم أنهم يريدون دولة علمانية هو أن بلدا صغيرا أصبح له صوت متجاوز لكل ترسانتهم الهاذرة والمخرفة. وما يزعجهم أكثر هو أن هذا الصوت لم يغلق في وجه من يعتبرونهم الممثلين الحقيقيين لإرادة الشعوب الثائرة ضد الاستبداد والفساد في بلاد العرب. والحلف المتين بين هذا البلد الصغير حجما والكبير طموحا مع بلد آخر استعاد هويته الحضارية فعاد بزخم غير مألوف علمنا لم جن جنونهم وأسقط في أيديهم.
وما أثلج صدري هو أن هذين القطرين -قطر وتركيا- رغم سقوط خصومهم إلى حضيض السفاسف ظلا محافظين على هدوء وعقلانية ينبغي ألا يتخليا عنهما أبدا. فشتان بين من يخاطب حماته -دعوى الحرب على الإرهاب والدولة العلمانية- وبين من يخاطب شعبه يريده أن يعي شروط استعادة دوره في التاريخ الكوني. آمل أن يكون فهمي لما يجري مطابقا له لئلا ألدغ من جحر مرتين: ينبغي أن يكون الموقف سعيا لتوحيد العرب وليس مجرد دعاية لنظام أيا كان صاحبه. فعظمة الرجال ليست في ذكرهم كأشخاص بل في ذكر أفعالهم التي تتجاوز الأشخاص إلى الرموز المعبرة عن إرادة أمة عظيمة تسترد مكانتها في التاريخ.
ولست أكتب للكلام على أشخاص بل لتشجيع من أتوسم فيه الخير لكي يكون من منارات تاريخ الأمة ولو في حالة ضعف مؤقتة السعي للتخلص منها يشفع لصاحبها.
فالعملان التاليان:
– الأخذ بأسباب البناء الحديثة في القطر
– وتوحيد الوعي العربي بسياسة اعلامية حديثة في الوطن
كافيان شاهدين على الاخلاص للأمة.
إذا كنت أعتقد أن كل بلاد المسلمين محميات وأنه لا أحد مهما كان بسيط القدرة العقلية يجهل ذلك فبم أميز قطر وتركيا عن الآخرين؟ لماذا أفضلهما؟
أولا أنا واثق من أنهما واعيان حقا بهذه الحقيقة. وواثق من سعيهما إلى طلب شروط الخروج من هذا الوضع. والفرق بين تركيا وقطر هو بالحجم لا غير. فتركيا تشعر بأن لها حجما يمكنها من السعي بالقوتين العنيفة (العسكرية) واللطيفة (الثقافية). لكن قطر تعلم أنها تقدر على الثانية دون الأولى. وهذا كاف عندي لفهم الوعي بالمعضلة، والحل المناسب للحجم دليل فهم دقيق لشروط النجاح وعدم توهم ما توهمه القذافي متصورا استيراد السلاح قوة. وفي غياب الصف العربي الذي يمكن أن يعدل تركيا في بناء قوة سنة الإقليم المستهدفة من الذراعين ومن سندهما الشرقي والغربي كانت قطر ممثلة للغائب. ذلك أن مجرد الوصل بين القطرين وتجاوز الحاجز الذي يراد تكوينه بين العرب والأتراك من خلال احتلال الهلال كاف لإفساد خطة أعداء الامة المذكورين.
لذلك فكل العرب الذين يعادون الأتراك ويعتبرون وجودهم في قطر خطرا عليهم هم في الحقيقة عملاء إيران وإسرائيل يستهدفون الإسلام والسنة مثلهما. فتراهم يذكرون بما يسمونه الاستعمار العثماني للعرب. ترويجا لدعاية بعض مسيحيي الشرق العربي وأدعياء القومية من الطائفيين بدليل حلفهم مع إيران. ولذلك فكلما دار الحديث بيني وبين بعض الاخوة ممن يصدقون هذه الخرافة ذكرتهم بأنه لولا الأتراك لعاد الأبيض المتوسط بحيرة رومية كما كان من قبل. فهم الذين حموا شمال افريقيا كلها والشام كله من حروب الاسترداد المسيحية بعد سقوط الاندلس: فتونس احتلها الاسبان 75 خمسا وسبعين سنة ولم يحررها إلا الأتراك. ولم يكونوا يتصرفون كأتراك بالمعنى القومي الذي جاء بعد دخول جرثومة القومية لدار الإسلام في القرن التاسع عشر بل كجيش الخلافة الاسلامية.
واليوم الأتراك لا يدّعون أنهم جيش إسلامي بل شعب إسلامي برهن على أنه صار قادرا على حماية نفسه ودولته ويساعد غيره من شعوب الأمة للتحرر. وطبيعي أن يسعى العملاء إلى تشويهه بإحياء نعرات القوميين الذين تبين أنهم طائفيون ولا يؤمنون بالعروبة: وإلا لما ساعدوا إيران لإحلال الهلال. وما يحرجهم بل ويسفههم هو أن تركيا التي عادت إلى حضنها الحضاري حتى لو سلمنا بأنها ذات نزعة هيمنة مثل إيران وإسرائيل تناست غدر العرب بالخلافة. وفي الحقيقة، ما كانت تركيا يكون لها مثل هذه النزعة ولا حتى إيران وإسرائيل لو كان للعرب ما كان لأجدادهم من الطموح والعزة والإيمان بأنفسهم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock