مقالات

مقاومة الفساد في تونس غطاء معركة مضاعفة ظاهرة وباطنة

أبو يعرب المرزوقي
منذ ظهور ما يسمونه “الحرب على الفساد” أعلنت أنها خدعة لا تنطلي حتى على أكثر الناس سذاجة واكتفيت بتوصيف مؤقت بأنها حرب شق على شق من المافية. وهو توصيف صحيح في الجملة لكنه غير دقيق، لأن المافيات لا تخوض الحروب لمجرد الانتقام بعضها من البعض، بل لا بد من وجود صيد ثمين منتظر من الحرب.
فما هو يا ترى؟
إذا حددنا طبيعة الرهان، أمكن أن نحدد هذا الصيد الثمين المنتظر من المعركة: خلافة رئيس الجمهورية التي احتدمت منذ نجاح السبسي. إلى حد الآن لم يبرز الـ”دوفان” أو لم يجد السبسي من يراهن عليه ليكون خليفة بتدريجه إلى أن يصبح أهلا وهذا هو الامتحان لمن اختاره للحكومة. وأولى مراحل الامتحان هي في إزالة العوائق وهذه هي المهمة التي تدخلت فيها المافيات التي ينبغي أن توافق على المرشح الممكن لأنها هي التي تحسم. وليس هذا خاص بتونس ففي أعتى الديموقراطيات اللوبيات هي التي تحسم في النهاية. لوبيات عالمنا مافيات وليست قوى سياسية حقيقية: هي برجوازية زائفة.
المشكل أن “ريتوريك الثورة” تعقد المعركة لأن الألسن التي لم تعد تخاف الحكام تستطيع كشف المستور: يكفي أن تسمع آخر حوار للمجلس مع رئيس الحكومة. هذا كله مقدور عليه.
ما أريد الكلام فيه هو محاولة طرح السؤال الجوهري: دولة فاسدة حتى النخاع هل تستطيع مقاومة الفساد بأدنى حد من المصداقية؟
فما يسمى دولة -لأنها بلا سيادة لحاجتها للتسول في الرعاية والحماية- فاسدة بنيويا وظرفيا: وظائفها ملغومة، وعودة النظام القديم بديموقراطية مغشوشة. فحرص القوى السياسية والنقابية على تجنب الحرب الأهلية فرض القبول بنتائج الانتخابات الأخيرة والخوف من الفوضى يحول دون إعادة بناء الدولة كلها. الرهان ليس سياسيا فحسب -مسألة الخلافة بعد السبسي- بل هو كذلك رهان عميق لمن سيؤول حكمها العميق أو من ستكون الدولة العميقة بعد المعركة. وهذا يتطلب كباش فداء وصراع قوى واصطفاف أحزاب ومافيات يتدخل فيها ما في اجهزة ما بقي من الدولة وما في من يمتص دم الشعب باسمها أو بما يوازيها.
وقد كتبت سابقا لأوضح ما أعنيه بالفساد البنيوي للدولة: فالموازي كله يجري باشتراك مع من هم في الدولة والدولة فسدت إلى حد الإفلاس هي وشركاتها. والغريب أن هذا الفساد يقع بغطاء قانوني يضفي عليه الشرعية: لو تخففت شركات الدولة وإدارتها مما أثقلوها به من توظيف لأزلامهم لما أفلست وارتهنت. وقد ضربت عدة أمثلة في كل مستويات الوظائف التي تقوم بها الدولة وشركاتها وإدارتها لأبين أن الفساد البنيوي هو العلة الأولى والموازي فرع منه.
وذكرت برأي ابن خلدون في الحرابة التي هي سرقة عنيفة إما لغياب الدولة أو بمشاركة الدولة. فلا يمكن للمافيات أن تفرض شرعها من دون أحد الشرطين. وما ظلت الدولة تعمل بهذا الفساد البنيوي فالكلام على الحرب على الفساد خدعة لا يصدقها إلا غبي وهي في الحقيقة ورقة ترشح للرئاسة: خلافة السبسي. لكن لا يمكن لهذا العمل أن يكون سياسيا بمنطق الظاهر بل لا بد أن يكون مافياويا بمنطق الباطن: فنظير اللوبيات الغربية هو المافيات العربية. والمافيات العربية تستتبع السياسيين في الداخل لكنها تابعة لسياسيين في الخارج الذين هم بدورهم تابعون للوبيات تتحكم بمن يتحكم في قوتي العالم. وقوتا العالم اللتان توليان وتعزلان هما ملاك البنوك والإعلام.
ولست بحاجة لمزيد التوضيح.
فمن نجّح ماكرون هو من يدير الضفة الجنوبية للمتوسط.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock