تدوينات تونسية

في رثاء أعظم مجانين العالم

نضال السالمي
علمتُ منذ مدّة قصيرة بوفاة أحد الرجال الرائعين الّذين كانت لهم بصمة راسخة في ذاكرتي: إنّه المجنون أحمد بن علي بن حميدة رحمه الله.
كان مجنونا عجيبا.. لا يؤذي الناس إطلاقا.. و لكنّنا كنّا نخاف منه بشدّة لمّا كنّا صغارا فنلوذ بالفرار حين نراه عابرا بملابسه الرثّة وعلى أكتافه بعض شؤونه الغريبة من ملابس ممزّقة أو حافظات بالية لمأكولات قديمة.. بشَعرٍ عظيم وعينان برّاقتان.
آخر مرّة رأيته فيها كانت ربّما وعمري 12 عاما.. لكن اللقاء الأشدّ رسوخا في ذاكرتي كان وأنا أدرس في الأولى آبتدائي على ما أظنّ.. كنتُ أرعى غنمًا لنا وقد غربت الشّمس ولم أسارع بالعودة للمنزل إذ كنت أطربُ لمشهد الخرفان الصغيرة تأكل حينا وتتقافز أحيانا أخرى.. والحقيقة أنّي ظللت نادما لسنوات عديدة أنا لم أهرب من المدرسة وشعوذات التعليم رغم أنّي كنت حينها في المرتبة الأولى غالبا ولكنّ عدم فراري وتحوّلي لراعي أغنام حقيقي سيظلّ إخفاقا حقيقيّا يطاردني لسنوات بحمّى الحسرة وزفرات النّدم.
كان بيني وبينه “طابية هندي” قصيرة.. وكان الليل قد أخذ في بسط أجنحته على العالم.. ظلّ واقفا ينظر لي دون أن يتكلّم أو يتحرّك حركة واحدة.. ووقفت واجما أراقبه بقلب من نار.. ولعلّي من شدّة الخوف لم أقدر لا على الصراخ ولا على الرّكض هاربا.. فلقد كنّا أطفالا نعتقد أمورا عجيبة عن المجانين أنّهم يقتلون ويشربون الدّماء وأنّ لهم أنيابا كبيرة ومخالب لا تُفلتُ فريستها من الأطفال الأبرياء.. ولعلّ ذلك كان تدرّبا عفويّا على الشّجاعة أن أقف وحيدا في الخلاء لمواجهة مجنونٍ متربّص لا أدري من أين خرج لي ولا كيف تحرّك بعد دقائق ومضى في حال سبيله.
تقول أشهر الحكايات عنه.. أنه كان تلميذا متفوّقا في الثانوي في عصره (على الأرجح في أول السبعينات) ولكنّه وقع في غرام أنثى جميلة، فأحبّها كأكملِ ما يكون الحب حتّى بلغ الخبر إلى إدارة المعهد أو أباها فالمعلومات متضاربة هنا وقد حاولت في المدّة الأخيرة تقصّي حقيقة ذاك الرجل العظيم.. ولقد كان أباه رجلا شرسا، غليظا بلا رحمة فلمّا بلغه الأمر نزع عن آبنه كلّ ملابسه وضربه ضربا متوحّشا ثمّ سكب ماء باردا على رأسه ممّا أفقد صديقنا أحمد بن علي بن حميدة صوابه فهامَ على وجهه في الجبال التي تفصل قريته عن قريتنا السوالم.. وعاشر الوحوش ونام في المغارات الموحشة وتكلّم مع السّباع وبكى في القفار البعيدة والآفاق المجهولة كأشدّ ما يكون البكاء أنّه قد أخلف وعده لحبيبته أن يتولّى أمرها في كامل قوّته فيقودها بثقة فارسٍ من فرسان الحب بين أشدّ شعاب العالم ضيقا ليعبر بها أهوال الوجود ومخاطر الفتنة فيرسو بها على الضفة الأخرى للسعادة: قمرا من الحب في أحضان شمسٍ من الدّفء.
كان ينزل لقريتنا حين يهدّه الجوع فيقف أمام المنازل دون أن ينبس بكلمة فيعرف النّاس حيرته فيسارعون إلى إعطائه ما يريد من الأكل وكان يأكل بأدبٍ ثمّ ينطلق صوب الآفاق.
أحمد بن علي بن حميدة.. فارس من زمن آخر.. وإنّما هو العاقل فينا نحن المجانين.. فلم أسمع أنه قد آذى بشرا بقول أو عمل وأعتقد أنه قد آنتصر على ميولات المجانين والمقهورين من رغبات في الإنتقام من العالم.. ولقد سمعت أنّ أحد آبناء العمومة وكان يعمل أحيانا في الجبال قد وجد صديقنا المجنون يوما نائما في مغارة وحوله ثعبان عظيم فتفطّن المجنون من نومه فهبّ محذّرا آبن عمّي أن لا تقتل الثعبان ولا تلمسه بسوء فإنّه عبدٌ من عباد الله يحرُسُني (أدعو هنا أبناء العمومة أن يسألوا فرج أخ المرحوم مسعود عن ذلك ويرسلوا لي التّفاصيل).. وفَرج هذا هو من عثر على مجنوننا الرّائع ميّتٍ منذ يومين دون أن يمسّه سوء.. ذلك أنّ صديقنا قد طلب من آبن عمّي أن يأتيه بقارورة ماء ويتركها له في مكان آتّفقا عليه في مجاهل الجبال ولكن آبن عمّي مرّ بعدها بيومين فوجد قارورة الماء في نفس المكان فآرتاب في الأمر فذهب إلى مكان نومه ليجده على غير العادة قد نزع كلّ ملابسه ونام نومتهُ الأخيرة عاريا من الحضارة كلّها متسربلًا بأنوار الخلود جميعا.
حدّثتني أمّي أنّها زارت يوما أهل مجنوننا الحبيب وعلمت أنّ أباه قد أنهى حياته سجينا بسبب جريمة قتل في عملية قطع طريق عابرة وأنّ زوجته وبعد أن أنهكها الحزن على آبنها وفاض بها التّعب من ضنك العيش معه قد أبلغت البوليس عن جريمته وكانت الوحيدة التي تعلم ذلك.
عندما كبرت كثيرا فهمت تلك النّظرات اللمّاعة الّتي كانت بيني وبينه.. فقد أخبروني أنّ تلك كانت طريقته الدائمة في طلب الطّعام: لقد كان كريم النّفس، عميق العيون، ذو مهابة حقيقية حتّى لكأنّه فيلسوف إغريقي في حالة تأمّل حزين.
مات الرّجل العاشق أحمد بن علي بن حميدة.. في أحضان السباع وفي القفر الموحش وترك لنا الدّنيا واسعة خضراء نتهارج فيها كما تتهارج الدوابّ.
اللهمّ آغمره بحنانك وعظيم رحماتك وآسكنه فسيح جنّاتك وأبهج قلبه بأنوارك.. يا رحمان يا مجيب الدّعاء.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock