تدوينات تونسية

سفـــــر

ليلى حاج عمر
قالت لي أمي: كيف حال الأولاد؟ 
قلت: إنّهم يتجوّلون في أوروبا من بلد إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى ومن نهر إلى أخر أحرارا دون حدود أو قيود.
قالت: لم لم تذهبي معهم؟
قلت مازحة: “قالوا لي: ستتعبين ماما مازلت صغيرة عن السّفر.. حين تكبرين قليلا سنأخذك معنا.. ابقي الآن. فبقيت”
وأضفت: هل تعرفين حلمي ماما؟ أن أحمل حقيبة السّفر على ظهري وأرتدي حذاء رياضيّا وأشقّ البرور والفيافي دون أن يستوقفني أحد أو يطلب التّأشيرة أحد لأصل السّودان ثمّ أثيوبيا.
نظرت لي أمّي بعين واحدة فقد كانت الأخرى مغلقة بسبب عمليّة جراحيّة أنجزتها منذ شهر وخلّفت لها التهابا لم تشف منه وقالت: أثيوبيا بنيتي ؟.. آي عيني..
شعرت بالشّفقة عليها من حلمي في هذه الحرارة التي تثقب الرّؤوس. لكنّ حلمي كان شاهقا. أن أصل أثيوبيا فأتسلّق مرتفعاتها وأقف عند حافة بحيرة تانا الشّاهقة حيث ينبع نهر النّيل الأزرق وحيث يرفّ نسيم آت من زمن البدايات وأرفع يديّ إلى السّماء مثل امرأة بدائيّة ترتدي شملة من جلد الحيوان وأطلب من اللّه أن يزيل كلّ الحدود وكلّ الحروب في هذه الأرض الرّائعة. ثمّ أسبح كسمكة عبر نهر النّيل فأصل الخرطوم حيث يلتقي الرّافدان: النيل الأبيض والنّيل الأزرق. هناك تلتقي روائح البلدان التّي يمرّ بها النيل بدءا من بحيرة فيكتوريا على حدود بورندي وأوغندا وتانزانيا إلى أثيوبيا والسّودان ومصر يحملها الطّمي ويخصبها ويوحّدها الماء. الماء يوحّدنا شرقا وغربا. الماء الرّقراق الذّي يسير دون توقّف كنهر التّاريخ.
بعد ذلك أتحوّل إلى طير لا يحتاج تأشيرة عبور لأحطّ على نهر الأردن فـ “أغسل وجهي بمياهه القدسيّة” كما صدحت فيروز ذات سنة. هناك الماء يوحّد بلدانا ثلاثة فرّقتها الحدود: لبنان وفلسطين والأردن. فالمنبع هو جبل الشّيخ اللّبناني والرّوافد هي اللدّان الفلسطيني وبانياس السوري وأنا الطّائر يحلّق فوقها بحريّة ولا يخشى رصاص الجندي الصّهيوني الذّي يحرس مياه النّهر ويتحكّم بها ويستغلّها لدولة الكيان الغاصب. وأحطّ أخيرا عند حافة بحيرة طبريّة حيث ينتهي نهر الأردن الذّي تعمّد فيه المسيح عليه السّلام على يد يحيى. هناك لا يلتقي الماء فقط بل يلتقي التّاريخ بكلّ حضاراته وأديانه وثقافاته. يناديني دجلة فأسرع فوق خرائب المدن التي دمّرتها الحروب إلى الماء دون أن أخشى الدّرك الذّي سيقول لي: من أين أنت؟ فأقول: من تونس. ـ تونس؟ طب شو عملتو بالثّورة؟؟ هات أوراقك. الماء يجدّد ويوحّد لكنّ العقول والأرواح متفرّقة. في دجلة ندرك كم يوحّدنا الماء وتفرّقنا السياسة. فدجلة من روافده نهر الزّاب الكبير الذي ينبع من تركيا ونهر الزاب الصغير الذي ينبع من مرتفعات إيران. العراق وتركيا وإيران والماء واحد. من جبال طوروس ينبع ويخترق هضبة الأناضول ويخترق أرض سوريا ليلتقي بأنهار صغيرة هناك تنبع من تركيا وإيران والعراق. ماذا لو اتّبعنا حركة الماء؟ ماذا لو كنّا الماء؟ ماذا لو كنّا الماء بدل النّار؟ ماذا لو كنّا الماء بدل النّفط؟.
من حلمي أستيقظ على وقع رنّة الهاتف. أجد ابني قد أرسل لي صورته وهو يركب باخرة سياحيّة في نهر الرّاين بكولون الألمانيّة. النّهر هناك حرّ دون جنود يحرسونه وآمن من حروب تحوّل ماءه إلى لون الدم. أريد أيضا أن أركب باخرة في نهر دجلة أو نهر النّيل أو أيّ نهر عربيّ دون أن أطالب باستظهار أوراقي أو أطلب تأشيرة ودون أن أخشى انفجارا أو دويّ رصاص.
تقول لي أمّي متألّمة: لم أستطع أن أفتح عيني لأرى بوضوح. أريد أن أرى بوضوح.
أريد أيضا يا أمّي.. أريد..

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock