مقالات

الإسلام السياسي حقيقته التي يحاربها المخلدون إلى الأرض

أبو يعرب المرزوقي
ما المسلمة الأساسية التي يعتمدها أدعياء العلمانية والليبرالية والانظمة المستبدة بنوعيها القبلي والعسكري في حربهم على “الإسلام السياسي”؟
سأحاول تحديده دون أن أدخل في جزئيات تناقضاتهم، لأني لا يمكن أن أفعل إلا إذا كنت أعتقد أنهم ذوو فكر يحتكم إلى العقل فتجادله ببيان تناقضاته. سأبين أن مسلمتهم الأساسية التي يحاربون بها “الإسلام السياسي” والتي لا يطبقونها إلا في حربهم عليه لأن تحريفهم ينفي الإسلام والسياسة في آن. فتوظيف الأنظمة القبلية والعسكرية لتحريف الدين تراه في سند الطبقة التي تدعي العلم الديني من دجالي الدعاة وإسكات صادق العلماء بل وتعذيبهم. وتراه كذلك في تحالف أدعياء العلمانية والليبرالية مع هذه الأنظمة التي تطبق نقيض السياسة ونقيض الإسلام: نفي كرامة الإنسان في دنياه وأخراه. ومع ذلك فلن أطيل الكلام في هذا لأنه معلوم ولا يحتاج لمزيد شرح. أما ما ليس معلوما بالحجة العقلية فهو وهاء مسلمة الفصل بين الدين والسياسة.
ما أريد أن أثبته فلسفيا وعقليا ودون لجوء للحجج الإيمانية فهو التالي: لا يمكن تصور سياسية منفصلة عن الدين، ليس في أذهان العامة فحسب، بل للجميع. وإثبات هذه القضية يضع بين قوسين صحة الدين وعدم صحته صدق المعتمدين عليه أو نفاقهم. ما يعنيني: وظيفة الدين في السياسة من حيث دوافعها وأهدافها. ومعنى ذلك أن وظائف السياسية بالجوهر لا تقبل الفصل عن الدين بسبب حاجتها ماهويا لوظائفه التي من دونها لا يمكنها أن تحقق ما لأجله سميت سياسة. ولذلك، فكل محارب للإسلام السياسي بدعوى الفصل بين السياسي والديني هو في الحقيقة لا سياسي ولا ديني، بل هو مستبد سياسيا وفاسد خلقيا: مافيا. ولا يتوهمن أحد أني أقصد أن السياسة بحاجة إلى الدين للسلطان على ضمائر العامة بالمعنى الفولتيري أو الباطني: فهذا أيضا دليل لكنه ليس قصدي. ذلك أن غاية قصدي هي بيان أن هذا نفسه دليل ضرورة الدين لو بالتحريف كما في التشيع لمغالطة العامة. وذلك يكون من جنس دلالة الكذب على الحقيقة.
ما أريد بيانه هو أن الدين غير المحرف ضروري للسياسة غير المحرفة، تماما كما أن السياسة المحرفة بحاجة إلى دين محرف: وهو في الحالتين دلالة كافية. ومعنى ذلك أن نفاة الإسلام السياسي لا يفصلون بين الدين والسياسة، بل يصلون بين السياسة المحرفة والدين المحرف: موقفهم من جنس رفض الكاذب للصدق. فكل الانظمة العربية القبلية والعسكرية تستعمل سياسة محرفة وتحتاج إلى دين محرف لتحارب السياسة السوية والدين السليم. تلك هي المعركة الجارية. وذلك لأن السياسة لا تقبل الفصل عما يتعالى عليها ليؤسسها: السياسة بحق أساسها دين سليم والسياسة المحرفة تحتاج لأساس ديني محرف: في كل حضارة.
خطأ فولتير وماركس والباطنية والعلمانية والليبرالية والاستبداد والفساد السياسيين هو الخلط بين تحريف السياسة والسياسة وتحريف الدين والدين. ذلك ما أريد درسه لبيان استحالة الفصل بين الدين والسياسة حتى في أعتى العلمانيات والإلحاديات مثل الشيوعية ومثل روباس بيار في الثورة الفرنسية. وحتى أكون واضحا، فلا ينبغي أن يتوهم البعض أني بهذا أدافع عن الرؤية الاخوانية لوظيفة الدين في السياسة. فهذه الرؤية قاصرة دون رؤية الإسلام. فليس دور الدين في السياسة وضع سلطة دينية فوق السلطة السياسية، بل هو في منظور القرآن تحديد وظائف السياسة وتأسيسها على قيم الاستخلاف الكونية.
ووظائف السياسة تتعين بصورتين: شكلية في المؤسسات والقوانين ومضمونية فيمن يملأ هذه المؤسسات بوصفها خانات مجردة تتعين تاريخيا في أخلاقهم. الشكل المجرد هو المؤسسات والقانون (أو الشرائع). والتعين هو الأفراد الذين تختارهم الجماعة ليكونوا قيمين عليها بشروط القوامة الشرعية والخلقية. والشاهد على توفر هذه الشروط هي الجماعة ودليل شهادتها هو الانتخاب الحر أو البيعة الحرة التي تنتخبهم دون أن يكونوا أصحاب سلطة دينية أو فقهاء. ولهذه العلة، يمكن القول إن السياسي مشروط بالديني من حيث القيم المؤسسة والأخلاق المرافقة وليس من حيث مؤسسات تخصه تكون فوق مؤسسات الدولة. فكل المؤسسات الدينية في الدولة التي هذه رؤيتها الإسلامية، ينبغي أن تكون دون مؤسسات الدولة حتى يصح الجمع بين التعدد الديني ووحدة الدولة. وهذا بيّن من آل عمران حيث إن الرسول نصح اليهود بتطبيق شريعتهم حتى لا يطبق عليهم شريعة الإسلام فتكون الدولة راعية للشرائع التي تعترف بها. وهذا هو المضمون الحقيقي لمفهوم التسابق في الخيرات المشروط بـ{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} في ظل دولة واحدة تمكن من الحريات شرط التسابق.
كلامي عن “الإسلام السياسي” لا يتعلق بواقع أمره بل بواجبه. وهو الإسلام السياسي بمدلوله القرآني. نعم الإخواني أقل تنكرا له من المذاهب الأخرى. والأكثر تنكرا للرؤية القرآنية هو الخيار الباطني الذي يعتبر الدين مجرد إيديولوجيا للحكم. وبين الحدين نجد مؤلهة أولي الأمر والأناركية. وبذلك نجد مربعا فرعاه المغالين نفاقا وصدقا في الدين هم الباطنية والخوارج من جهة أولى، والمغالين في السياسة نفاقا وصدقا هم السلفية والاخوان. لكن القلب الذي هو الرؤية القرآنية للعلاقة بين الديني والسياسي بوصفه الأول مؤسسا للثاني بقيمه والثاني محققا للأول بأفعاله، عسير التحديد. وهو ليس وسطا بالمعنى الذي يقال عن الوسط القيمي في الفهم السطحي للأخلاق الارسطية: فهو ليس وسطا بينها بل الأصل الذي تكون البقية تحريفاته.
وذلك هو مفهوم الوسط القرآني والقيمة الخلقية الأرسطية بوصفها وسطا بين تطرفين. لكن تلاحظون الأن التطرفات هما أربعة وليست اثنين. فالرؤى خمس.
والصادقون في فهم علاقة الديني بالسياسي يمثلهم على يمين القلب الخوارج والاخوان غير المحرفين. والكاذبون يمثلهم التشيع والسلفية المحرفة. وهو ما يعقد المعادلة: ذلك أني ضاعفت الرؤى الأربع المحيطة بالقلب فجعلتها محرفة وغير محرفة. بمعنى أنها تعبر عن تدين صادق وتدين منافق فيها. والإسلام في تحديده للعلاقة بين العقد والعمل هو الذي وضع هذا المعيار في الظاهر رغم أنه أرجأ الحكم على السرائر لمتوليها. وإذن فالدين حاضر دائما.
وهذا هو ما اريد بيان علله العميقة التي تكذب العلماني والليبرالي والأنظمة العربية بنوعيها القبلي والعسكري وبصفات الاستبداد والفساد والتبعية. فلنشرع الآن في بيان ذلك: أمر عسير يصبح يسيرا إذن انطلقنا من هذه المبادئ:
1. رشد السياسة يتحقق باستراتيجية اقتصاد الأدوات لتحقيق الغايات. ثم
2. وحدة الرشد السياسي الكونية تجعل استراتيجية توظيف الأدوات من أجل الغايات واحدة بالجوهر (البنيويات) وإن اختلفت بالعرض (الظرفيات). ثم
3. الوحدة الجوهرية في الاستراتيجية السياسية علتها أنها حماية ورعاية للشأن الإنساني الفردي والجمعي في حدود الدولة في علاقاتها الدولية.
فينتج عن ذلك.
4. أن كل وظائف الدولة العشر لا بد أن تحضر فيها هذه الاستراتيجية المناسبة بين الأدوات والغايات.
5. وأخيرا فللمبادئ أصل واحد.
وهذا الأصل الواحد هو الدين، أي دين منزل أو طبيعي صادق أو منافق المهم: عقيدة تتعالى على واقع الأمر إلى ما تفترضه واجبه متعاليا عليه معللا له. وسيان أن كان مقاصد الشريعة (المتدين) أو حقوق الإنسان (اللامتدين): لا بد من متعال أحده يسميه حق الله والثاني يسميه حق الطبيعة وليس السياسة. وهذا المتعالي الذي تستمد منه كل سياسة المبادئ التي وصفت هو الذي يحرر الإنسان من ضيق الأمر الواقع بسعة الأمر الواجب فيعلو بعلوه ويكون حرا. وبذلك يتبين أن صفات الإنسان من حيث هو إنسان منزلة متعالية على الأمر الواقع ومشرئبة للأمر الواجب وهو جوهر الديني في كل دين من منظور القرآن.
وإليك ساسا الأدلة: فالإرادة والعقل والقدرة والحياة والوجود لا يمكن أن تنحصر في واقع امرها أم هي بالجوهر والذات تعال عليه واشرئباب لتجاوزه. الديني في كل أفعال الإنسان هو هذا الوعي بالفرق بين واقع أمره وواجبه، ومن ثم بين قصور واقع الأمر والشعور بواجب تجاوزه بالاجتهاد والجهاد. وهذا هو جوهر الإسلام من حيث هو إسلام سياسي: فهو للفرد إيمان وعمل صالح وهو للجماعة تواص بالحق وتواص بالصبر للاستثناء من الخسر أو واقع الأمر. لذلك تجد أن نفاة العلاقة بين الدين والسياسة هم عبيد واقع الأمر وهو قرآنيا عبادة الهوى والإخلاد إلى الأرض أي أخلاق الكلاب لا تتوقف عن اللهيث. وراء ماذا يلهثون؟ وراء ما لأجله يستبدون ويفسدون: عبادة العجل التي من شروطها الكفر بعبادة الواحد الأحد العلة الجاذبة والغائية لتعالي الإنسان. هو معنى الاستخلاف منزلة يصبو إليها الإنسان وخاصة من اختارته الأمة ليكون راعيا لإرادتها السياسية في الحكم والعلم والقدرة والحياة والوجود.
ولنبدأ بالإرادة، إرادة الفرد أو إرادة الجماعة. هل يمكن تصورها من دون الاختيار؟ والاختيار هل يمكن تصوره من دون الحرية؟ أليست تجاوز الضرورة؟ وهل يمكن تجاوز الضرورة إذا توقفنا عند الطبيعة؟ لا بد إذن من تعال إلى ما وراء الطبيعة أي لدين سواء كان منزلا أو طبيعيا: لا إرادة بلا دين.
ولنمر إلى العقل، عقل الفرد أو عقل الجماعة، هل هو شيء آخر غير تجاوز الظاهر إلى قانونه؟ وهل يمكن من دون التحرر من الظاهر للولوج إلى حقيقته؟ التجاوز إلى الحقيقة يعني أولا الإيمان بأن للأشياء حقائق، وبأن الإنسان يمكنه بعقله النفاذ إليها وراء ما يعوقه في سعيه إلى الفهم: إيمان ودين.
ولنمر إلى القدرة سواء المادية أو الرمزية، هل يمكن تصورها من دون سعي إلى تجاوز مجرد الإرادة بفعل العقل لجعل المراد مقدورا عليه؟ تعال ديني. وهو تعال ديني لأنه توظيف للدافع (الإرادة) ولملكة تحقيق الغاية (العقل بالعلم) من أجل تجاوز الأماني إلى جعلها حقائق الاستعمار في الأرض: دين.
أما الحياة والتعبير الذوقي عنها بالفنون والألعاب الرياضية فهي أهم مميز للإنسان: ففيه يتجلى التعالي على الغرق في المعيش نحو معناه الجمالي.
والأصل الوجود أو رؤياه. فهو عين قيام الإنسان الخليفة المدرك لمنزلته وكرامته وحريته ليكون أهلا للاستخلاف بفضل سلوكه في استعمار الدنيا بقيمه.
وبذلك فقد بينت بما لا يدعو أي محل للشك في أن كل أفعال الإنسان، وخاصة أسماها أي سياسة شأن الجماعة والإنسانية، لا يمكن تصورها من دون دين.
لكني أفهم ألا يفهم أدعياء التأصيل والتحديث من محاربي الإسلام السياسي هذه المعاني التي من شرطها أن يتعالوا عن إخلاد الكلاب إلى الأرض.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock