مقالات

الجبير ومأساة الكفاءات العربية

أبو يعرب المرزوقي
مأساة الجبير وزير خارجية السعودية الحالية. الرجل حائز على أسمى ثقافتي الغرب: الألمانية في طفولته والإنجليزية في كهولته أمام تعسف الأميين. لا يمكن أن يكون موافقا في قرارة نفسه على المطالب السخيفة التي هي اعتراف ضمني بجرائم اصحابها لو كان للقانون الدولي نائب عام لتابعهم جزائيا.
لذلك ودون أن أحتاج إلى سؤاله رأيه لا يمكنني أن أسلم بأنه كان له فيها دخل فهو ليس أميرا مثل معلمه في الدبلوماسية ويعلم أنه لا وزن لرأيه. لذلك، فلما رايته يحاول الترويج لحجج الحصار، فهمت أنه مدرك وواع بأن الحجج واهية وبأنها لا يمكن أن تنطلي على مخاطبيه ممن ليس بسفاهة ترامب. رثيت لحاله في موقفه مع وزير خارجية ألمانيا. فهو يعلم أنه يخاطب من له دراية بأعماق ثقافته: فمن كرع من ثقافة الألمان، لا يقبل خزعبلات الأميين.
فواضح أن لائحة المطالب وما وراءها من تهم خرجت من “فيلسوف” مصر ومموليه من العابثين بتراث الأمة وروحها اعتمادا على وهم سلطان أسيادهم العالمي. لا يدرون أنهم وحدهم يصدقون سخافات ترامب فميركل أعلنت صراحة أن على أوروبا الاعتماد على نفسها فلا تنجر وراء حماقات ترامب: أزمة الخليج منها. وما أظن الجبير جاهل بذلك أو غير واع بالورطة. لكن المطبعين يتصورون أن سلطان ناتن ياهو عليهم يمكن أن يحميهم مما يجرهم إليه غباؤهم وجشع ترامب. فمن يتصور نفسه كبيرا لأن له رصيدا يعد كبيرا بالقياس إلى فقر أجواره، ليس أجهل منه لأن ثروة العرب كلهم دون ثروة بلد متوسط في الغرب وحتى شركة. فالحصيلة النهائية ستكون إفلاسه في شراء خردة ترامب العاجز عن استعمالها حتى ضد مقاومة بدائية كالحوثية وماضغي القات من مليشيا المخلوع.
لذلك أرثي للجبير ومن هو بمستواه في النخب العربية. فلعله على رأي ابن خلدون ظن أن الأفاضل يمكن أن يحموا بلادهم من الأراذل قياما بالواجب؟ لكن أصحاب القرار الأخرق يفضلون كما في تونس “بن تيشة” على أي خبير بالتدبير، لأن المافيات لا يهمها حسن التدبير، فهو متروك لمن يحركهم دمى لأجندته. وكان ابن خلدون قد حمل مسؤولية سقوط الدول ليس للحكام وحدهم، بل لمن يرفض خدمتها حفظا لكرامته حتى لا يكون مجرد أداة في يد المستبدين والفاسدين. ورغم إعجابي بابن خلدون كما يعلم القراء فإني أعيب عليه هذا الموقف العجيب الذي يجعل السعادة رهن التذلل للحكام: أفيكون على دين فقهاء السلطان؟
فلنتخيل كبار علماء الخليج اتحدوا فتضامنوا فيما بينهم أما كان بوسعهم أن يحموا شرف وظيفتهم الخلقية بدل ترك الأنظمة تستفرد بآحادهم؟ أما كان بوسعهم أن يتركوهم عرايا عاجزين عن مخادعة الشعوب بتحريف الدين فيصدقون قولة ماركس فيهم بوصفهم حاقني الشعوب بالأفيون الديني؟ أليس القرآن نفسه يعلل في آل عمران التحريف بهذا السلوك الذي يشترك فيه رجال الدين والحكام الفاسدين؟ خطأ ماركس أنه يخلط بين الدين وتحريفه. فالتحريف الذي يحول النخب إلى حاقني الشعوب بالأفيون لا يقتصر على الدين، بل على كل الوظائف الرمزية. أي كل الكفاءات التي لها عقل مدبر على علم.
فقه التغلب لا ينطبق على فقهاء الدين وحدهم، بل يصدق كذلك على فقهاء الخبرة سواء كانت دبلوماسية أو تقنية أو حتى تربوية: تحرير الشعوب رهن نخبه. لذلك فلا بد من قومة الشرفاء من رجال الدين والنخب ذات الكفاءة الفعلية والمؤمنة بحرية الشعب وعزة الأمة حتى نتخلص من مافيات القبائل والعساكر. ومافيات القبائل والعساكر لا تمس شرف القبائل ولا الجيوش، بل هي تصف من استبد بهما من عملاء الاستعمار: لذلك فالثورة لن تنجح إلا بالشرفاء منهما. إذا بقيت الحال كما هي والعمل برأي ابن خلدون: قبول الاستبداد والفساد خوفا على البلاد، فذلك لن ينقذ البلاد لأنه سيفقد معاني الإنسانية في العباد.

عادل الجبير Saudi Foreign minister Adel al-Jubeir

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock