تدوينات تونسية

“التطبيع” بما هو أعلى مراحل الاستبدادَين العلماني والديني

عادل بن عبد الله

قد يكون من باب المجهود الذهني العبثي، محاولة إقامة البرهان على وقوف الإمارات والسعودية أساسا وراء كل الثورات العربية المضادة في تونس ومصر واليمن وليبيا.
فالأمر يكاد يبلغ مرحلة البداهة التي لا يماري فيها إلا من لا معوّل على خلافهم. ومهما تباينت آراؤنا في تحديد الأسباب التي تقف وراء هذا العداء المستحكم لتفكيك بنى الاستبداد التقليدية وللمسارات “الطبيعية” للانتقال الديمقراطي، فإننا لا يمكن أن نختلف في الالتقاء الموضوعي بين استراتيجيات الثورات المضادة وبين استراتيجيات التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو واقع لم يعد خافيا على أحد بحكم خروجه إلى العلن خاصة بعد الحملة الأخيرة على قطر وقائمة الشروط التي يريد ما يسمّى بـ”محور الاعتدال” فرضها على الدوحة.

لنبدأ من هذا التساؤل: ما هو الأمر الجلل الذي أخرج الدوحة من محور “الاعتدال” ليرميَ بها في محور “التطرف”، وإن شئنا استعارة المعجم اللاهوتي (وهو المعجم المهيمن على سرديات اليمين المتصهين المهيمن على أنظمة التسمية في زمن العولمة)، فإننا سنتساءل عن “الذبيحة المقدسة” التي يجب على قطر أن تشارك في ذبحها (أو على الأقل ألاّ تعارض الطقوس المرتبطة بها) لبناء المدينة الفاضلة، أو بالأحرى “المدينة المطبّعة”؟

عندما تُحاصَر دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، عندما تُحاصر دولة “فاعلة” في محور “الاعتدال” وذات دور مركزي في الملفين السوري واليمني، فإنّ من حقنا أن نفترض أن الرهانات الحقيقية للخلاف قد تجاوزت من منظور “دول الحصار” الرهانات السياسية إلى الرهانات الوجودية. وعندما تتحول الخلافات إلى خلافات وجودية، أي عندما يستشعر أحد الأطراف أنه مهدد في وجوده ذاته وليس فقط في مصالحه المادية والرمزية، فمن الطبيعي أن يشهد الخطاب انزياحا من المعجم الدبلوماسي إلى المعجم الحربي، كما أن من الطبيعي أيضا أن تتغير المعادلات الجيو-استراتيجية، أو لنقل من الطبيعي أن نشهد حسما في بعض مسائلها التي كانت معلّقة.

في أحد اجتماعاته لتسويق رؤية 2030، صرّح الأمير محمد بن سلمان أمام لفيف من الاقتصاديين والمثقفين والإعلاميين بوضوح لا مزيد عليه بأنّ أعداء السعودية ثلاثة، وهم على الترتيب حسب درجة الخطر الذي يمثلونه على المملكة: إيران، داعش، الإخوان المسلمون. إننا أمام تصريح خطير من المنطق بألاّ يعكس العقل السياسي للدولة السعودية-الوهابية في جميع مراحلها بقدر ما يعكس المنطق الذي يهيمن على “أولي الأمر” في هذه المرحلة تحديدا. فماذا تعني هذه العداوات “الاستراتيجية” الثلاث وما علاقتها بمسار “التطبيع” الذي دخلت فيه السعودية بدون مواربة بعد حملتها الأخيرة على قطر؟

قد لا نستطيع انطلاقا من سلّم “العداوات” اشتقاق سلّم “الولاءات” بصورة يقينية، ولكننا نستطيع على الأقل أن نجزم بأنّ غياب بعض الفاعلين (من داخل العالم الإسلامي وخارجه) من هذه القائمة يجعلهم حلفاء افتراضيين للمملكة، كما أننا نستطيع أن نجزم أيضا بأنّ أعداء إيران وداعش والإخوان هم حلفاء “ممكنون” للدولة للسعودية ومن معها في حلف “الاعتدال”.

لو بحثنا عن “الغائب” الأبرز في قائمة الأعداء للمملكة -حسب منطق بن سلمان- لوجدنا أنهم “العلمانيون” العرب بمختلف أنساقهم الأيديولوجية، وتحديدا أولئك الذين تضرروا من الربيع العربي ومن دخول الحركات الإخوانية إلى مسرح الفعل السياسي “القانوني”. ورغم أنّ الإيديولوجيا الرسمية للمملكة تعتبر العلمانية مذهبا كفريا، فإنه لا مهرب من تتفيه هذا الخلاف الجوهري والدفع به إلى خلفية المشهد، إذ لا مهرب من “التطبيع” معهم لضرب العدو المشترك: الديمقراطية والحركات الإخوانية التي استفادت منها بصورة هددت جديا هيمنة النخب العلمانية (في مستوى التمثيل الشعبي) وهيمنة السعودية (في مستوى القيادة الدينية).

هنا -أي عند نقطة الاشتراك في الموقف من الديمقراطية الحقيقية ومن الإخوان المسلمين باعتبارهم أكبر مستفيد منها- يجب البحث عن “إرهاصات” التطبيع مع الكيان الصهيوني، بل هنا يجب البحث عن شرطه الضروري -وغير الكافي- في مستوى العالم العربي-الإسلامي. ولا شكّ أنّ وضع إيران في قائمة الأعداء يعكس مخاوف حقيقية عند القيادة السعودية (وهي مخاوف متأصلة في الإيديولوجيا الوهابية باعتبارها الإيديولوجيا الرسمية للمملكة)، ولكنها مخاوف مبالغ فيها ولا يمكن أن تبلغ مستوى الخطر الوجودي الذي تُمثله “الديمقراطية” و”الإخوان” (أو “المسلم الديمقراطي” بما هو أفق تأليفي بين الديمقراطية والإسلام) على المملكة وحلفائها في “محور الاعتدال”.

رغم كل تقاطعات قطر مع “محور الاعتدال”، ورغم أنها فاعل مركزي في أغلب التحركات السعودية في المحيط الإقليمي، فإنّ نقطة الخلاف المفصلي التي ميزت قطر عن التحالف السعودي-الإماراتي (وتوابعه) هو الموقف من الثورات العربية، وتحديدا الموقف من الإسلام السياسي ذي المرجعية الإخوانية. إنها بلغة اللاهوت المسيحي “خطيئة قطر الأصلية”، وبلغة الكلام الإسلامي ضرب من “الشرك” الذي يُحبط كل حسناتها وتحالفاتها وتقاطعاتها مع السعودية، لكن ليس باعتبارها حارسة العقيدة السليمة والسلوك القويم -من منظور سني- بل باعتبارها حارسة الأنظمة الاستبدادية وقاطرة الثورات المضادة -من منظور النظام العالمي الجديد والترتيبات الصهيو-أمريكية للحل النهائي للقضية الفلسطينية-.

قد يبدو من الغريب أن تُوحّد مسارات “التطبيع” مع الكيان الصهيوني بين الإيديولوجيا الوهابية وبين أعدائها من النخب العلمانية التي تضررت من الربيع العربي، ولكنها غرابة سرعان ما تزول عندما نعترف بأننا نعيش في عصر ما بعد إيديولوجي بامتياز، وهو ما يعني أنّ الأنساق الإيديولوجية المغلقة ليست إلا مجرد ملحقات وظيفية، بل مجرد طوابير خامسة لخدمة “أولي الأمر” و”حماة الديار” و”أصحاب الفخامة” ولحماية مصالحهم المادية والرمزية التي لا دين لها ولا مذهب، اللهم إلا مذهب الملك العقيم الذي لا رحم له.

عندما يفقد الحاكم شرعيته (بصرف النظر عن نوع تلك الشرعية)، وعندما يصبح بقاؤه في السلطة مشروطا بإرادة القوى الدولية وإملاءاتها لا بإرادة شعبه وخياراته، من الطبيعي أن يكون الأفق النهائي لنظامه الاستبدادي هو التطبيع مع الكيان الصهيوني، باعتبار ذلك التطبيع شرطا ضروريا تحتاجه كل بنى التسلط لضمان الدعم الدولي مهما كانت جرائمها في حق شعوبها. فهشاشة الشرعية وغياب التوافق الحقيقي بين الفاعلين الجماعيين والانقسامات الحادة في “الرؤية للعالم” وفي المعاني النهائية للوجودَين الفردي والجماعي، كل ذلك يخلق نوعا من “القابلية للتطبيع” مع كل “حماة” الفساد ورعاته، خاصة وأن الفساد في الأنظمة الاستبدادية يتحول بالضرورة إلى معطى بنيوي، أي يصبح سياسة دولة ولا يبقى مجرد تجاوزات فردية أو عرضية.

من المؤكد أنّ “التطبيع” مع الكيان الصهيوني سيغير الكثير من ملامح السرديات الكبرى وسيؤثر على شرعيتها ومصداقيتها.

وقد تكون الوهابية (بما هي الغطاء الأيديولوجي للنظام السعودي وحصنه المتقدم للدفاع عن نفسه) هي أكثر الأنساق الإيديولوجية التي ستتأثر بخيار التطبيع وستنخفض قوة تأثيرها -وبالتالي سيتقلص دورها باعتبارها حصنا متقدما للدفاع عن المملكة وأداتها الإيديولوجية الأساسية- وذلك مهما كانت درجة المقاومة التي سيبديها حرّاس التراث النجدي ومؤسساته العلمية التقليدية. إننا في مرحلة ينطبق عليها قول غرامشي: “العالم القديم انتهى، والعالم الجديد تأخر في الظهور.. وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش”. لقد انتهى عالم التطبيع الموارب والمخاتل، عالم “الإسرائيليات” الموضوعة في خدمة الطائفة والمذهب و”الدعوة”، وحل محله عالم “الإسرائيليين” الذين لا يمكن تثبيت “الدولة” وسلطاتها الفاقدة لشرعية الأداء إلا برضاهم.

بعيدا عن حدي التشاؤم والتفاؤل، لا شك في أنّ هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العرب والمسلمين ليست سبت التاريخ ولا نهايته، إذ تبقى مفتوحة على أكثر من إمكان. ولا شكّ أيضا في أن الرياح الآن مواتية لـ”وحوش التطبيع” باعتباره جملة من المسارات المتلازمة (فالتطبيع مع الكيان الصهيوني هو آخر مراحل التطبيع مع الفساد ومع التخلف ومع اللامعيارية ومع الإمبريالية ومع “التفاهة”) لكن إلى حين. فالتناقضات الذاتية (سواء تلك التناقضات الداخلية بين أصول المذهب الوهابي وبين سياسات آل سعود، أو تلك التناقضات الجوهرية بين الوهابية وحلفائها العلمانيين من أعداء الربيع العربي والحركات الإخوانية) ستجعل من الصعب جدا على تلك “الوحوش” أن تحافظ على قوتها لمدة طويلة.

إنّ الضعف المتوقع لـ”محور الانقلابوقراطيين” لن ينعكس بالضرورة قوة عند أعدائهم (وأعداؤهم هم أساسا “المسلم الديمقراطي” الذي يرفع التناقض بين الدين والحداثة، والديمقراطي العلماني الذي يرفع التناقض بين الديمقراطية وسياقاتها الثقافية المخصوصة). وذلك لأنه لا يوجد في المدى المنظور ما يشير إلى أنّ القوى الإسلامية والعلمانية التي تجاوزت الاصطفافات الهووية القاتلة تتجه نحو بناء كتلة تاريخية مواطنية اجتماعية قادرة على تقديم بدائل واقعية للأنظمة القائمة، وليس فقط تحسين شروط التفاوض والتموقع داخلها (وضمن شروطها المفضية بالضرورة إلى التطبيع ولو بعد حين).

“عربي21”

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock