تدوينات تونسية

رهان الحريّة

زهير إسماعيل

راهنّا ومازلنا نراهن على أنّ الحرية، بأطوارها ومناسيبها المختلفة، “مضاد حيوي ” للقديم وكل من ربط مصيره به، و”مساعد حيوي” للجديد في تعبيراته المختلفة، وإن قلّت.
في سياق الحريّة تنشأ حركة مزدوجة : هدم وبناء.
ورغم ما تعرفه البلاد من انقسام اجتماعي يجعل من المجال السياسي مجالين، فإن المجالين يعرفان هذه الحركة المزدوجة:

تآكل تعبيرات القديم السياسيّة ودخول أذرعته المافيوزيّة في “حرب أهلية” لن يخفيها انتحال عنوان “الحرب على الفساد” ذلك أنّ “الحرب بين الفاسدين”، تجتاح مفاصل الدولة والوزارات والإدارة ومجالات المال والأعمال الرسمي منها والموازي، ولا تكاد تهدأ في هذا الركن حتى تندلع في آخر. ولو قدروا على بسط الاستبداد لبسطوه، ولكنّهم إلى حدّ الآن عاجزون.

انزراع بذور الجديد، في جمنة والكامور، وحركة الشبيبة في مواجهة قوانين مأسسة الفساد وتمكين الفاسدين من الإفلات من المحاسبة.

هذه البذور الأولى، بقدر ما تُمكّن لنفسها في تربة الوطن بالربط مع أشكال انتظام أهليّٰة نجت من عمليّة التهشيم المنهجي الذي قادتها الدولة الغنائميّة باسم التحديث، تثبت استعدادها لتكون أحد أعمدة المواطنة الاجتماعيّة والحكم المحلّي والانتظام الأفقي.

وتمثّل المواطنة الاجتماعيّة والحكم المحلّي وأشكال الانتظام الأفقي مقدّمات لإعادة بناء الدولة لكي تغطّي كلّ المساحتين الاجتماعيّة والثقافيّة. وفي ذلك تجاوز للشرخين الهووي والاجتماعي؛ شرط وحدة البلاد.

جمنة أظهرت، وهي تفعّل بطريقتها الباب السابع من الدستور، قدرة الانتظام الأهلي على الاستمرار الفاعل، وأرَتْنا كيف أنّ من “فرّٰقتهم الدولة” “جمعتهم الواحة”، في حين فتحت الكامور، وهي تُفعّل الفصل 13 من الدستور بطريقتها، ملف الثروات النفطيّة على أرضيّة الاستقلال الاقتصادي وسيادة الشعب على ثرواته المختلفة (لذلك تميزت من بين أخواتها بدفع ضريبة الدم)، وجعلت من التنمية الجهويّة استحقاقا وطنيّا.

ولولا الحريّة المعمّدة بدماء الشهداء لصودرت جمنة، وقُمعت الكامور قمعا نسقيا شاملا، وحُوصرت الشبيبة المناهضة لقوانين الفساد في المدن.

هذا المسار الذي انطلق من تونس، وشهد معه المجال العربي ومحيطه بل والعالم زلزلة حقيقيّة، لن يتراجع.

هو مسار بدأ بشعوب هذا المجال وهي تحتفل بما اعتبرته “إسقاط النظام” في الميادين. ولا يمكن أن ننسى البث المباشر من تونس والقاهرة وصنعاء وبنغازي على شاشة الجزيرة المقسومة إلى أربع، وهي تنقل بهجة الجموع.

وهو مسار تطور إلى حروب طاحنة أهليّة وطائفيّة وخراب هائل شارك فيه محيط المجال العربي التقليدي وانخرطت فيه محاور صراع قديمة وجديدة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock