مقالات

دور إسرائيل في حكم العرب ومعارضتهم

أبو يعرب المرزوقي
كتب الأستاذ هذا النص سنة 2007 ونشره في موقع ألف لسواح في 2008.01.28. نعيد نشره الآن لأن الأحداث جعلت ما كان ضمنيا وتكلم عليه الأستاذ، واقعا نراه بالعين المجردة.
النص
كيف نفهم أبعاد الدور الإسرائيلي في المسرح السياسي العربي حكما ومعارضة وما مدى قدرتنا على التعامل مع الرهانات الدولية الحالية حتى نفهم هذا الدور ونقدر على التحرر منه ؟ ذلك أن كيفيات التعامل مع إسرائيل هي العلامة المائزة بين النضوج الموضوعي الذي يفصل بين القدرة الفعلية ومجرد الإرادة في العمل السياسي.
فالقدرة الفعلية تتميز بما تطلبه من توفير لشروط الإمكان المحدد. أما مجرد الإرادة فيستغني عن هذه الشروط تجاهلا لمبدأ الواقع وشروط التعامل معه بحكمة و نجاعة. وهذه المقابلة تصدق على من هو في هذه الوضعية بحسن نية فضلا عمن هو فيه بسوئها: فالكثير من المتعنترين هم أشد الناس اعتمادا على إسرائيل في جوهر وجودهم لأن المطاولة في التعنتر تحول دون الاستعداد للتحرر منه للانتقال من المقاومة التي هي رد فعل إلى القيام الذي هو فعل مشروط بالندية مع العدو.
فلا يمكن أن تزعم الحرب على العدو ثم تنتظر منه أن يكون إنسانيا معك فلا يستعمل كل ما لديه من أسلحة لم تفعل شيئا لتكون ندا له فيها: إنك بذلك لا تكتفي بالتسليم بتفوقه المادي بل أنت تشهد له بالتفوق الخلقي لكأنك تقول له اتركني اكذب على شعبي وحافظ علي في منزلة المتعنتر المانع من الفعل الموجب الموصل للندية بأدواتها الفعلية.
إن الوعي والإرادة المجردين يطلبان ما يشتهيان من دون توفير شروط ما يسعيان إلى تحقيقه: وهذا هو ما يبدو غالبا على تعاملنا حكما ومعارضة مع إسرائيل. أما النضوج الموضوعي والقدرة على الفعل فهما يقدمان تحقيق الشروط على السعي إلى المشروط. ولعل كيفية تحقيق إسرائيل لأغراضها بتقديم تحقيق الأسباب وعجزنا عن تحقيق أدنى شرط من شروط ما نسعى إليه في صدامنا معها كافيا لفهم الفرق بين الإرادة العرية عن فن التعامل العلمي مع محددات الفعل والقدرة المدركة لشروطه.
لم نفهم ما فهمته أوروبا. فهي قد فهمت أنها خرجت من الحرب العالمية الثانية فاقدة لشروط الدور العالمي الذي كان لها قبلها فصارت مستعمرة يتقاسمها القطبان. وكذلك كان مآل المستعمرات الأوروبية ومنها نحن. اختارت أوروبا الصف الرابح وتوحدت فصارت ثاني قوة في العالم. واخترنا الصف الخاسر وتفرقنا فصرنا في ذيل العالم. ولا زلنا في عنادنا مع الصف الخاسر.
ولعل مثال واحد يساعد على فهم القصد من الصف الخاسر الذي اختاره العرب الحاليين. فيكفي أن تقارن ما يحدث في دبي بما يحدث في سنغفورة. فسنغفورة جعلها الصينيون -مثلها مثل تايوان وهونج كونج- مصاصة لرأس المال الغربي لتمويل اقتصاد أمتهم الصين وهي على مقربة من أن تصبح ثاني قوة اقتصادية في العالم. ودبي جعلها العرب -مثلها مثل كل قبائل العرب- مصاصة لرأس المال العربي لتمويل اقتصاد أعداء أمتهم التي هي على مقربة من الإفلاس المطلق بمجرد أن ينضب زيت الحجر.
والدليل حاجة لجوء أوروبا لهذه المصاصة فهم يفضلونها على الصين وروسيا في التمويل الخارجي لأن أصحابها ليست لهم سياسة مالية تسعى إلى تحصيل التحكم في الشركات بل هم مجرد تجار في المضاربات المالية يخضعون لإرادة البلد الذي يهربون إليه ثروات بلادهم لأنهم ينوون الهجرة إليه!
إذا كانت إسرائيل تعمل بأدوات تمكنها من تسخير القدرة الدولية بأدواتها الأساسية (المال والإعلام والاستعلام والقوة السياسية والقوة العسكرية) لما تريده، فمعنى ذلك أنها مهدت لذلك بعلم الأمرين وبتحقيق التوافق بين ما تريده وما يسعى إليه من بيده القدرة الدولية بحسب الظرف الدولي المواتي.
ومراكز القدرة على الفعل الدولي التي تستند إليها إسرائيل اليوم فتستعملها لأغراضها ضربان:
• إحداهما في أمريكا التي بيدها شروط القدرة المادية الأولى في العالم الحالي وتسعى إلى تحقيق شروط القدرة الروحية بمنافسة أوروبا التي ما تزال محافظة عليها.
• والثانية في أوروبا التي بيدها شروط القدرة الروحية في العالم الحديث وتسعى إلى تحقيق القدرة المادية التي ما تزال بيد أمريكا.
لذلك فإسرائيل تستعمل أمريكا خاصة لتوفير شروط قيامها المادي، دون أن تهمل استعمال طموح أمريكا إلى القدرة الروحية. وهي تستعمل أوروبا خاصة لتستمد شروط قيامها المعنوي, دون أن تهمل استعمال طموح أوروبا إلى القدرة المادية. فالأولى تسلحها وتمولها لتستعملها أداة في سيطرتها الإمبراطورية الفعلية. والثانية تمدها بشرعية من عقدتي ذنبها إزاءها (كل التاريخ المسيحي ثم النازية) وتغذيها لتتخلص من أخطائها الخلقية ورمزا لسيطرتها الروحية.
وكلا بعدي إسرائيل هذين يعلمهما النافذ من النخب العربية علم اليقين بل ويستعملونهما كلما دعتهم الحاجة إلى ذلك فيتوسلون إسرائيل ولوبياتها ليرضى عنهم الرأي العام الغربي: يتوسلونها لتبييض صفحتهم في الرأي العام الغربي أما الرأي العام العربي فهو آخر همومهم. ومثل هذا غني عن التمثيل، إذ لا وجود لنظام عربي واحد يقبل الاستثناء من مثل هذا السلوك. ولعل ذلك يصدق خاصة على الأنظمة التي تجاهر بأكبر عداء لإسرائيل: إنها أكثر الدول العربية لجوءا لمثله.
فإسرائيل تسهم مباشرة مع أمريكا في حماية الكثير من الأنظمة العربية عامة والأنظمة التي تجاهر بالخروج عن خرافة الإجماع العربي في الموقف من إسرائيل ماديا وذلك في المشرق والمغرب على حد سواء. وإسرائـيل تسهم بصورة غير مباشرة مع أوروبا في حماية الكثير من الحركات التي تدعي التحديث وذلك في المشرق والمغرب على حد سواء.
وحتى الحركات التي تدعي الأصولية فأغلب زعمائها يعيشون في حماية أوروبا وأمريكا وبالتالي في حماية سلبية من إسرائيل التي ترضى لوبياتهما عن بقائهم تحت أعين الاستعلامات الغربية. وما لم نتخلص في الحالتين من الحاجة إلى مثل هذه الحماية يبقى دور إسرائيل ولوبياتها المنتشرة في العالم، دورها في سياستنا العربية رئيسيا وجزء لا يتجزأ من المعادلة العربية الداخلية.
ويجتمع كلا الإسهامين في صيرورة أمريكا وأوروبا بالذات وإسرائيل ولوبياتها فيهما بالوساطة الجسر الضروري والكافي في كل مبادلات الدول العربية الاقتصادية مع العالم بضائع وخدمات وخبرات وأدوات تبادل استثمارا وتمويلا وتسويقا: وذلك يصح على حركات رأس المال الخليجي الذي هو سيولة مالية لا يمكن أن تعمل حقا إلا بتوسط أرباب البنوك في العالم وعلى حركات البضائع والخدمات (كالسياحة مثلا) في بلاد المغرب العربي والتي هي بيد يهود فرنسا ممن هاجر من المغرب العربي.
أما دورها في وسائل تكوين الرأي العام الدولي فإنه من البين أنها قد صارت الجسر الذي تمر به إيجابا أو سلبا كل الأنظمة والحركات العربية لتسويق ذاتها في دوائر صنع القرار وفي الرأي العام الغربي النافذ. لذلك فكل من يتحدث عن معركة المقاطعة والتطبيع من دون أخذ هذه الأمور في الاعتبار لا يغالط إلا نفسه: وهو يكذب على الشعب العربي.
معركة المقاطعة خسرها العرب بمجرد أن أصبح الرهان غير مقصور على إسرائيل الجغرافية. فالرهان في العلاقات الدولية تجاوز الحيز الضيق بين العرب وإسرائيل بمقتضى العولمة إلى كل الشبكة التي بيد من يأتمر بأوامر اللوبيات ذات الصلة الوطيدة بإسرائيل: وهو أمر لا يمكن لأي عربي صادق أن ينكره خاصة والإنكار حائل دون الفعل الحقيقي الوحيد القادر على الصمود أمامه قصدت توحيد العرب وتكوين كمنوالث إسلامي قادر على التعامل الندي مع اللوبيات العالمية التي تعمل لصالح إسرائيل.
فمن عدم الحكمة مواصلة هذا التصدي السلبي بالأسلوب التقليدي الذي عهدناه حتى لو سلمنا بحكمة الشروع فيه من الأصل. إذ لا يمكن أن تقاطع العالم كله لتقاطع إسرائيل مقاطعة يكون ضررها عليك أكبر من ضررها عليها. والبديل الذي نقترحه يحقق أمرين:
فهو أولا يغنيك عن المقاطعة لأنه يعطيك الندية في العلاقة فيكون التهديد وحده بالمقاطعة أقوى حتى من الكذب بمقاطعة مستحيلة.
وفهم هذا الأمر ثانيا يقلل من كثرة الكلام عما يسمى بسلاح البترول العربي أو سلاح الأموال العربية بصرف النظر عن عوائق استعمالهما الأخرى وخاصة شرط الإجماع فضلا عن كون المرء الذي يعيش من مورد واحد لا يمكن أن يستعمله سلاحا إلا بقتل نفسه لأنه أحوج لبيعة من شاريه لشرائه.
والفرق الوحيد بالنسبة إلى الأنظمة التي تتكلم باسم القومية هو أن دور إسرائيل في سياساتها لا يبرز للعيان رغم كونه لا يقل عنه في سياسة الأنظمة التقليدية، ورغم كون البعد الجامع بين دوريها هذين لا يقبل الإخفاء كما يتبين من أمثلة الصدام بين الأنظمة القومية والحركات الدينية غير التقليدية الصدام الذي يفضح كل الدعاوى والمغالطات كما حدث في الكثير من المناسبات داخل نفس القطر أو بين الأقطار العربية أو حتى بين بعضها وبعض الأقطار الإسلامية.
ويصبح الاعتماد على الوساطة الإسرائيلية المباشرة أو غير المباشرة أوضح من فلق الصبح في حالة المعارضة العلمانية حتى وإن كانت المعارضة الإسلامية نفسها باعتمادها على الهجرة إلى الغرب تكاد تكون في نفس الوضعية. فهي لا تستمد ما يمكن أن تتمتع به من نفوذ وحرية نسبية في بلادنا إلا بما تضمنه لها أوروبا والإعلام الغربي (وهنا يكمن دور إسرائيل النافذ) من حماية.
وحصيلة القول هي أن إسرائيل قد أصبحت لاعبا أساسيا في المعترك العربي الإسلامي بجميع أبعاده في مستوى الحكم والمعارضة على حد سواء وفي كل المجالات الاقتصادية والثقافية وحتى الاجتماعية (التحركات النقابية وكل تنظيمات المجتمع المدني مثلا) مما يوجب التعامل معها على هذا الأساس من موقع التمييز بين البحث عن شروط القدرة المستعملة للموجود سعيا لتغليب المقبول منها على المرفوض عند الصادق من النخب ومجرد التعلق بأوهام الإرادة عند الديماغوجيين.
لذلك فلا بد من الاعتراف بأنه لا يمكن للمرء أن يعالج القضايا الأربع الأولى من دون حسم هذه المسألة. فهي يمكن أن تكون العائق الجوهري ويمكن أن تكون المحفز الأساسي بحسب التعامل الناضج المستند إلى القدرة الفعلية الحاصلة والمخططة لتطوير نفسها أو التعامل المراهق المستند إلى مجرد التنديد والوعيد. لا يمكن أن نواصل التعامل مع إسرائيل في ظرف الشرق الأدنى وكأنها ليست من العناصر الأساسية المؤثرة في كل وجوه الحياة العربية فضلا عن قوميات الشرق الأوسط غير العربية.
ففي الحكم لا واحد من الأنظمة التقليدية بقابل للاطمئنان للأنظمة غير التقليدية وجلها إن لم تكن كلها تعتبر إسرائيل الرادع الوحيد دون الأنظمة القومية التي تشعر بأنها تهدد عروشها ومصالحها بناء على تجارب يصعب أن نشكك في دلالاتها: وبهذا وحده يمكن فهم الاصطفاف المسمى صف الاعتدال وصف التطرف أو صف الصمود وصف الاستسلام بحسب مصطلحات الصفين المتقابلين.
وفي المعارضة لا واحدة من الحركات التحديثية العلمانية بقابلة للاطمئنان للحركات التأصيلية الدينية. لذلك فهي تتناسى الأنظمة التي تهدد حريات أفرادها مكتفية بالاحتماء الإعلام والرأي العام الغربي لها وهي حماية ذات صلة وطيدة بإسرائيل حتى وإن حاول البعض إخفاء ذلك لتتفرغ للحرب على الحركات الأصولية وقيم الأمة.
ولسوء الحظ فإن هاتين الحقيقتين من الأمور التي لا شك فيها. وهي من ثم علامتا الدور الأساسي لإسرائيل في السياسة العربية حكما ومعارضة. ومن ينفي ذلك يكذب على الأمة ولا يريد الكشف عن الداء الذي أوصلنا إلى هذه الوضعية لئلا نعالجه العلاج الشافي. والتصريح بهذه الحقائق رغم ما فيه من آلام يمكن أن يخلص السياسات العربية الحاكمة والمعارضة من الازدواجية فيحررنا من العنتريات الزائفة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock