تدوينات تونسية

غباوات العداوات.. عن قطر والأخريات..

نور الدين الغيلوفي

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة…

لا يزال التقاتل هو سيد الموقف في العلاقات العربية البينية منذ كانت القبائل العربية تشعل حربا ضروسا تدوم السنين الطوال لأجل ناقة، أيّام البداوة وأخلاقها، يروح ضحيتها خلق كثير وتتصدّع العلاقات وتُقطّع الأرحام ويختلّ العمران..

تقدّم الزمن وشهدت مختلف الشعوب نقلات نوعية في تنظيم اجتماعاتها وترتيب أولوياتها وبقي العرب يراوحون مكانهم عالقين بصحرائهم بلا أخلاقها معلَّقين بسؤال “لماذا تقدّم غيرنا وتأخّرنا؟” طرحوه على أنفسهم ولم يظفروا بجواب عنه. ولقد حسبوا أن الإجابة عنه تكون نظرية وكفى.. فشطحوا في تنظيراتهم المتهالكة وغرقوا في سجالاتهم المتراكبة ولم ينتهوا منها إلى طائل.. وكلّما اختلفوا في النظر ضلّ بهم العمل، وكلّما قرّروا أن يخطوا خطوة اختصموا في أيّ الرِّجْلَيْنِ يقدّمون، فتعطّلت بهم الحركة..

ولمّا كان التاريخ لا ينتظر غير أهل الإفاقة فقد ركنهم في بعض زواياه المعتمة فظلّوا كأنّهم صورة عالقة على شاشة معطّبة.. وبما أنّهم لا يبدعون في غير الاحتراب فقد فهمت الأمم الأخرى نهمهم واستهانت بدمهم ورأت أنّ حياتهم كعدمها أو لعلّ عدمها أفضل، لأنّ في عدمهم تطهيرا للأرض من أمراضهم التي لا يريدون أن يُشفَوا منها، وإذن فباطن الأرض أولى بهم من ظهرها.

 وبدل أن تهذّبهم السياسة فتعلّمهم حسن إدارة الحوار بينهم وتوخّيه سبيلا إلى حلّ مشاكلهم وتسوية خلافاتهم، كما فعلت بالشعوب الأخرى، تحوّلت في عرفهم إلى مُلك ظلّوا يتنازعونه، وكلّما شبّ خلاف بين طرفين منهم لم ينته إلّا بتصفية أحدهما.

 ومن فرط ولعهم بالتنازع تحوّل منطقهم القديم “أنا وابن عمّي على الغريب” إلى منطق “عليك بالغريب، فإنّه ليس أولى بك من غريب وإن احتقرك ولا أقرب من عدوّ وإن ازْدَجَرَكَ”.. لقد باتوا ينتدبون الغريب ويدخلونه إلى مخادعهم ويسلمونه قيادهم فصار هو الذي يملي عليهم خياراته لتكون خيارات لهم، فيفرحون بمقعدهم دونه ويتعلّقون بصورة لهم بحضرته ويتمسّحون بأعقاب زوجته.. ذلك ما شهدناه على الشاشات من احتفاء بالرئيس الأمريكي “الأصفر” دونالد ترامب كما لو كان عريسا مأذونا بالدخول على رؤساء الخليج العربيّ الماثلين بحضرته…

 نزل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمدينة الرياض يتبختر كطاووس أصفر بين سرب دجاج هزيل.. وبحلوله بينها استنوقت جِمَالُ الجزيرة العربية.. احتفلوا بمَقْدَمِهِ فاتحا وفتحت له مدينتهم أبوابها وصحائف كتابها.. وبعد أن استوى عليهم أملى عليهم تعاليمه ونفخ فيهم من ريحه وألّب بعضهم على بعض واستعمل بعضهم واشيا ضدّ بعض ثمّ تركهم ليهرع إلى الدولة العبرية يقدّم فروض الولاء لها ويلتمس مرضاة حاخاماتها ويزفّ إليها بشرى نجاحه في تبديل وجهة عداوات الأعراب إلى أشقّائهم بدل أعدائهم وفي ذلك انتصار لدولة شعب الله المختار على آخر أغبياء التاريخ…

 وما أسرع ما كان دعاء الرئيس الأمريكي مستجابا.. لم يكد يضع عنه قبّعة تعبّده التي رفعها عند حائط المبكى الصهيونيّ حتى استجابت الأنظمة العربية لدعوته وهرعت إلى تلبية دعائه فأنشبت مخالبها مجتمعة في دولة قطر تقتصّ منها لأعداء الأمّة وضربت عليها حصارا مركّبا في شهر رمضان برّا وبحرا وجوّا…

 جاءت الأخبار في موعد السحور بأنّ أربعا من دول العرب اجتمعت فأعلنت في اللحظة ذاتها ضرب حصار وحشيّ على قطر وقرّرت أن يكون الحصار برّا وبحرا وجوّا على الحقيقة والافتراض.. ولو أنّ تلك الدول استطاعت لأغرقت الدوحة في البحر.. وليس بعيدا عن هؤلاء ما تمنّاه رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون ذات صداع من أن يستيقظ ذات صباح فيجد غزّة قد غرقت في البحر.. وسارعت تلك الدول “المجتمعة” إلى رفع حالة التأهّب إلى مستواها الأقصى مخافة أن تجتاحها قطر من الجهات الستّ، ومضت تتوعّد المتعاطفين مع القطريين بالويل والثبور وعظائم الأمور بعد أن كانت أمس تشاركهم مجالسهم وتخالطهم في مؤتمراتهم في الحرب والسلم وترصد معهم هلال شهر رمضان.. وقد نسيت دول الخليج العربي أنّها قبائل عربية تمتدّ بينها أواصر القربى والنسب في جزيرة العرب.. وكلّ قطيعة بين دوله هي قطع للأرحام وإفساد لذات البين واعتداء على مكارم الأخلاق..

 وقد كان لهذا القرار مقدّمات انتهت إليه.. ولا يبدو أن به تعجّلا إنما هو خطّة مدروسة لا سيما بعد أن صارت دولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة على طرفي نقيض في ما يتعلق بقضايا مصيرية تشهدها الأمّة العربية من قبيل الموقف من ثورات الربيع العربي والموقف من مقاومة الاحتلال الصهيونيّ.. لأجل ذلك باتت الدوحة تمثّل كابوسا لحكّام تلك الدول يتمنّون فعلا إيقاعه في البحر…

 المسألة تتعلق بخيارات استراتيجيّة ومواقف سياسيّة جعلت الدول تتابعد وعلاقتها تتصدّع.. فلقد وقفت قطر من أوّل وهلة مع ثورات الربيع العربيّ وانحازت إلى الشعوب التائقة إلى نيل حرياتها والقطع مع مرحلة الاستبداد الأسود التي استمرّت طويلا حتى بقيت المنطقة العربية جزيرة مستثناة من كلّ تطوّر من شأنه أن يُلحقها بنادي الدول الديمقراطية ويمكّنها من الحرية والكرامة اللتين قامت لأجلهما الثورات.. ومثّل الإعلام سلاحا هامّا في نصرة الثورات أوّلَ نشأتها بتونس 2010/ 2011.. وكان لقناة الجزيرة فضل كبير في تبليغ صوت لمن لا صوت لهم.. وهذا أمر لا يجحده إلّا ناكر للجميل..

 لقد استثمرت قطر في الإعلام ووضعت لنفسها استراتيجية تستند فيها إلى المعرفة مكّنتها من صناعة موقع لها في المشهد الدولي متعدّية بذلك دولا لها اتساع جغرافي وكثافة ديمغرافية وثروات طائلة.. فكانت بحقّ دولة نوعية من جهات عدّة: جهة رهانها على الإعلام الحرفيّ المستقلّ باعتباره صانع السلطات والمتحكّم في صناعة السرديات التي تريد أن تكون لها الغلبة.. وجهة مناصرتها للأحرار وانتصارها للقضايا العادلة، وذلك من خلال دعمها للمقاومة في حالة حزب الله لمّا كانت بندقيته موجّهة إلى العدوّ الصهيونيّ وفي حالة حركة حماس التي تعاني حصارا طويلا من القريب والبعيد.. ووقفت، في الحالة المصريّة، مع الشرعية ضدّ الانقلاب العسكريّ الذي ارتدّ بالبلاد إلى عهود الظلام الاستبداديّ. لأجل ذلك جعلت قطر أفئدة الأحرار تهوي إليها.. وقد أثار كلّ ذلك حنق أنظمة قزّمت دولها بقمعها لشعوبها وهدرها لثرواتها ودول تحوّلت إلى مختبرات للتآمر والكيد..

 لم يكن الإرهاب المعلَنَ عنه في خطاب الدول التي شنّت حربها على قطر بحجّة دعمه سوى شمّاعة لاستمالة السيد الأمريكيّ ولنيل رضاه ولغاية الترويج لدعايتها السوداء ضدّ الدوحة التي شبّت عن الطوق ورفضت الخضوع للشروط المهينة التي تحملها على التفريط في خياراتها الاستراتيجية وسيادتها على كل قراراتها. لقد باتت قطر خارج السياق الخليجي واتخذت لها موقفا مزعجا للدوائر المتنفّذة في مجلس التعاون الخليجي فكان لا بدّ حسب هؤلاء من إخضاعها لإرادة كلّ من أبناء الشيخ زايد حكّام الإمارات الجدد ووليّ وليّ العهد السعودي محمّد بن سلمان.. يسعى هؤلاء إلى إكراه الدوحة على النزول عند إرادتهما فتتمرّد هي عليهم وتعتصم بحقها في أن تحدّد بنفسها خياراتها الاستراتيجية ومواقفها السياسية…

 ستظلّ دولة قطر في مرمى نيران من باتوا خصوما لها ولن يدّخروا جهدا في الكيد لها والانتقام من عنادها.. ولن تعجز هي عن توسيع دائرة حلفائها بعيدا عن هؤلاء.. فثرواتها مغرية وهباتها مجزية.. أمّا هم فسيُطوَّقون ما بخلوا به عليها بعد أن يحتلّ محلّهم الأباعد ومواقف الدولة المستنكرة للحصار المطالبة برفعه أوضح من أن تُفَسَّرَ…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock