تدوينات تونسية

من أوباما إلى ترامب: الثورات العربية و”الإسلام السياسي”.. وتفجّر صراع المشيخات النفطية..

الأمين البوعزيزي
منذ خمسينات القرن الماضي، استقر الأمر إلى استراتيجيات الهيمنة الأمريكية القائمة على استبدال أشكال الاحتلال المباشر الذي مارسته القوى الغربية (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا) بما أسمته  انتصار الـ “باكس أمريكانا” Pax Americana، حيث ساد شكل جديد من الهيمنة قوامه التبعية للامبريالية، مستغلة شعار حق الشعوب المحتلة في تقرير مصيرها (الذي تقدم به الرئيس الأمريكي ولسون عقب نهاية الحرب العالمية الأولى)، فضلا عن كونه أصبح مكلفا أمام تنامي حركات التحرر الوطني عقب الحرب العالمية الثانية.
لكن انتصار الـ “السلم الأمريكي” Pax Americana في الوطن العربي، لم يكن كشبيهه  في أوروبا الغربية (حيث تمّ فرض حزام ديمقراطي لمواجهة الاتحاد السوفييتي “الخطر الشيوعي بعبارة الدعاية الأمريكية”). إذ نراها قد رجحت خيار “سياسة الاستقرار المبني على السلطوية” الذي اعتبرته، “الأسلوب الوحيد لديمومة ضخ البترول”، وكون “النظم المستقرة على قواعد استبدادية، هي الأقدر على الانخراط  في سلام مع إسرائيل”، كما أنها “الأقدر على مقاومة الإرهاب الاسلاموي”.
الإستراتيجيا  المتحوّلة
استمر هذا الوضع إلى حدود زلزال البرجين في سبتمبر 2001، إذ طفقت مراكز البحث والاستراتيجيا  تطرح سؤال: “كيف أصبحنا مكروهين إلى هذا الحد؟”، بعبارة Gore Vidal .
من ضمن الأجوبة التي قدمتها مراكز البحث الأمريكي، “لقد وصل الإرهاب الإسلامي إلى قلب أمريكا بسبب دفاعنا عن مصالحنا عبر التحالف مع نظم دكتاتورية قمعت شعوبها فتخلّق الإرهاب في رحم تلك السياسات“… فكان التحريض على استراتيجيا “الفتوحات” الديمقراطية وفرض الديمقراطية عنوة عبر “سيف” الدبابات والطائرات… وكان غزو  بغداد ضربة البداية…. لكن مسألة الكرامة الوطنية هي التي كسرت  ظهر ذلك المشروع… إذ انفجرت المقاومة العراقية وأذلّت المارينز “الجندي الذي لا يقهر” في الفلوجة وحادثة الحرق الشهيرة على الجسور..
فكان أن تم تنقيح الإستراتيجية، “إذا ثارت الشعوب لن نقف في وجهها“…. وهو ما كان عقب اللهيب الديسمبري 2010، الذي سرى في هشيم الاستبداد العربي من تونس حتى الشام واليمن مرورا بليبيا ومصر… فاشتغلت دبلوماسية هيلاري كلينتون لـ وقف جموح الثورات عند التمثل الأمريكي للديمقراطية (تعددية وحريات على قاعدة اقتصاد السوق التابع المطبّع). وذاك ما يفسر وقوف أوباما الديمقراطي والكونغرس الأمريكي “تصفيقا للثورات”. وليس لأنها “ثورات ملونة تمّ تخليقها في مخابر المخابرات الأمريكية”، كما روّج لذلك نظام الشبّيحة وأذرعه المخابراتية في أطلس 17 ديسمبر العربي الذي بدأ يتوسع على وقع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”…
ضمن تلك الاسترتيجية التي اتخذت من شعار الديمقراطية أداة لحفظ المصالح الأمريكية، والحد من حالة العداء المتنامي تجاهها كان الموقف من استدماج الإسلام السياسي ضمن المشهد الديمقراطي السوقي الذي أعقب الثورات، بِنيّة محاصرة الراديكالية الإسلاموية التي انتعشت في ظل الاستبداد الحامي للمصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة العربية، كما كانت توصيات مراكز بحوثهم ومستشرفيهم تشير عليهم.. وليس بِنيّة تنفيذ مشروع إعادة هندسة المنطقة العربية هندسة أثنية (وهو أيضا مشروع أمريكي يشتغل عليه الجمهوريون، مستغلين أبشع استغلال تنظيرات فلاسفة ما بعد الدولة / الأمة القائلة، كونها قامت على نهج شوفيني يقمع التنوع ويطمسه)، لذلك دمغ كرادلة الاستبداد العربية الموجة الثورية الجامحة كونها إحدى أمارات “الفوضى الخلاقة” (عبارة كونداليزا رايس الشهيرة ضمن سياقات أخرى في كيفيات كسر الاستبداد)!!
ولأن الثورات العربية لم تقف عند حدود تغيير الأداء (تغير الواجهات السياسية وأساليب حكمها) بل نراها تمر إلى تجذيرٍ يفتح ملفات عالقة منذ قرون منها العقدي المرهون لدى تيارات إسلاموية مغتربة زمانيا، ومنها الاقتصادي والكياني المكبل باتفاقيات اقتصادية مذلّة..
فقد أخاف هذا الانفجار التاريخي العميق كل السلطويين ومهندسي خرائط سايكس بيكو…. فهذا الشارع التونسي يهتف بعشرات الآلاف عشية سقوط الفرعون المصري “الشعب يريد تحرير فلسطين”… وهذه الحشود الثائرة تحاصر سفارة الكيان الصهيوني في القاهرة، وترفع فوقها العلمين المصري والفلسطيني… وهذه الوفود الشعبية تتقاطر على غزة من الجزائر، مرورا وتحشيدا من تونس وليبيا واحتضانا في مصر، وصولا إلى أسوار فلسطين..
تحالفات… ولكن
فكان ميلاد التحالف الموضوعي بين الحزب الجمهوري الأمريكي واستراتيجياته، القائمة منذ عقود طويلة على قاعدة “دعم الاستقرار المبني على السلطوية”، والنظم العربية التي توسّخ في عروشها مرعوبة وجِلة وبقايا الحكومات المتساقطة التي تلملم صفوفها، واليسار “العربي” الستاليني المروّج لأولوية الصراع ضد ما يسميه “الفاشية الدينية ما قبل الرأسمالية” (لإقصاء الإسلام السياسي من المشهد السياسي سواء في ظل الديمقراطية أو في ظل الاستبداد)، والنظم الفاشية التي حوّلت القومية العربية والمقاومة إلى مجرد أيديولوجيا، للحفاظ على الحكم ولو توريثا. وكذا دخلت فرنسا ونخبها المحلية (اللائكية)، المستندة إلى شعار “نشر قيمنا يحمي أمننا ومصالحنا”، لاستبعاد الديمقراطية مطلقا، لإيمان عميق كونها ستفرز مشهدا سياسيا مخالف لما يرسمون، استكمالا لما تم تنفيذ بعضه طيلة فترتي الاحتلال والدولة ما بعد الكولونيالية، بحقبتيها البورقيبة والنوفمبرية (في تونس مثالا وكذا في جزائر تسعينات القرن الماضي مثالا ثانيا).
صعود ترامب
مثّل انتخاب ترامب وصعوده إلى عرش أكبر قوة امبريالية تشتغل على إعادة هندسة العالم بما يتلاءم وشريعة السوق المعولم، فرصة سانحة للعودة إلى استراتيجية “الاستقرار المستند إلى السلطوية”، بعد الوقوف على صعوبة فرملة الثورات وترويضها عند حدود ديمقراطية السوق الأمريكية، المفرغة من أية التزامات ومضامين اجتماعية سيادية، وكذا بسبب دخول الروس والفرس والترك على الخط، لحفظ مصالحهم في المنطقة العربية، ودعم النظم أو التيارات التي تدور في فلكهم، إلى حدّ تفاخر وزير الدفاع الروسي بـ “تحطيم ثورات شمال إفريقيا والشرق الأوسط الملونة”!!.. فكان الأسهل لترامب والجمهوريين العودة إلى أسلوب ألِفـوه منذ عقود لحفظ مصالهم.
ضمن هذه الرؤى والقوى المتصادمة، تفجّر الصراع بشكل سافر بين إمارة قطر وبقية المشيخات والممالك النفطية. إذ لطالما مثّلت قطر وقناتها “الجزيرة”، الذراع المحلي لأطروحات “بالديمقراطية نحمي مصالحنا”، التي تبناها الحزب الديمقراطي زمن أوباما، للترويج لدمقرطة على الشاكلة الأمريكية، ووقف جموح الثورات عند حدود التمثل الأمريكي الغربي للديمقراطية، اعتقادا كون دمقرطة الوطن العربي، تخفف من حدة العداء الشعبي للولايات المتحدة الأمريكية وتحد من انتشار الراديكالية الاسلاموية…
في حين تمثل سياسات حكام الإمارات المتحدة، الذراع المحلي لرؤية رسمتها بعض مراكز رسم السياسات الأمريكية، وتبناها الحزب الجمهوري الأمريكي، تنتصر لخيار حفظ المصالح الأمريكية، وفرض السلام مع الكيان الصهيوني، وتواصل ضخ البترول، وردع التيارات الاسلاموية وعدم التفريق بينها، اعتمادا على استراتيجية “سياسة الاستقرار المبني على السلطوية“، الكفيلة لوحدها بتحقيق المصالح الأمريكية دون الاكتراث بحق الشعوب في التحرر من الاستبداد، والاكتفاء بإدانة الثقافة الاسلامية، وتحميلها مسؤولية عدم قابلية العرب للديموقراطية.
أما السعودية، فإلي جانب ارتعابها كغيرها من “المشيخات” النفطية من ثورات جوهرها مواطني اجتماعي، قد تدق أبواب ممالكهم القروسطية  في أية لحظة، فقد كان خوفها مضاعفا من فرص نجاح “الإسلام السياسي” في التعايش مع الديمقراطية التي فرضتها ثورات شعبية، وهو أمر يرعب نظام الحكم السعودي، من إمكانية انتصار رؤية أخرى مستندة إلى الإسلام، مخالفة للكهنوت الذي يُطْبٍق على أنفاس الشعب “السعودي” وخطره على مخطط الإنفاق السفيه على تمثّلٍ أعرابيّ نفطيّ للإسلام يعرف بالوهابية.
هذه “المشيخات” النفطية، أحست بأن ما يجري في بلاد العرب، إنما ينفخ في صور قيامتهم التي اقتربت.. فكان الإجهاز على شقيقتهم المختلفة، قطر باعتبارها منصة تنفيذ الدمقرطة على الشاكلة الأمريكية (تشريك الإسلام السياسي وفرملة الديمقراطية عند حدود تعددية سياسية في ظل اقتصاد السوق المعولم) على حساب تحالف بدوي (شيوخ النفط وشيوخ الوهابية).
وها هو الحلف الهجين من جمهوريين أمريكان ووهابيين سعوديين، ويسار ستاليني مُفوّت، وشبيحة ممانعين في الإنصات إلى إرادة شعوبهم، ونظام رسمي عربي فاشي، ينضمّون جميعهم إلى وزير دفاع “النومونكلاتورا” الروسية المفاخر بقصم ظهر الثورات العربية، والطعن في شرفها الوطني، ووصمها بالملونة، والإجهاز على مشروع شيوع الديمقراطية في بلاد العرب في صفوف المسلمين، الذين أقدارهم أن يكونوا إرهابيين كما نصّت على ذلك مزامير استشراق غرباوي شوفيني متحيّز!!!
ماذا عن اصطفافات الساسة في تونس، سلطة ومعارضة؟
هل سيقف التحالف الحاكم، في مواجهة استراتيجية نظام  قوي، يحفظ مصالح الأمريكان على حساب حق الشعوب في تدبير شؤونها الديمقراطية، أم سترتمي في أحضانه، ليتواصل الالتفاف على الدستور وسائر المؤسسات الدستورية، لتطال الحريات والحق في التنظم؟؟
هل ستقف المعارضة في وجه أي نزوع فاشي يستقوي بعودة الدكتاتوريات المنكفئة، مستقوية بترامب الجمهوري العائد إلى استراتيجية “بالعصا الغليظة نحمي مصالحنا والديمقراطية ثقافة غربية خالصة، في مقابل الاستثناء العربي، وتعارض ثقافته الإسلامية من الديمقراطية”؟
أم تراها تنجرّ إلى غرائزها الأيديولوجية، في استئصال ضرائرهم الإسلامويين من المشهد، ولو أدى الأمر إلى السير على نهج من خصى نفسه ليغيض زوجته المزعجة!؟
ترى هل سيكون واعز الكرامة الوطنية، حائلا دون انخراطهم في السيناريو الترامبوي المؤمم لحق العرب في ولوج الزمن الديمقراطي؟؟
أم أن الكرامة الوطنية تحضر وتغيب، إذ لا ضير من تجرع سم التدخل الخارجي مادام النّاتو قرر إنهاء ضرائرهم  الهوويين!!
ختاما نقول:
أثناء كل الثورات قد يُعدم الثائرون ويعود الطغاة يحكمون، لكن الزمن لا يعود إلى الخلف أبدا… الثورات ليست مباراة رياضية يتصافح في ختامها المتبارون، بل هي خروج عن قوانين الجور… إما هزيمة وإعدامات، وإما نصر وكتابة  للتاريخ… الثورات ذات النسب الديسمبري دشنت زمن المواطنين العرب… الدرب صعب… لكن قدر الإنسان استهداف حريته أولا وأخيرا.. والشعوب لا تستحق من الحرية إلا بقدر ما تضخه من تضحيات.. كذا ثورات تقرير المصير… ففي الوطن العربي معركتان لم تحسما بعد، معركة تقرير المصير الوطني في مواجهة خرائط العبث الامبريالية بالهندسة الكيانية للأمة العربية، الذي ينفذه الغزاة، ومعركة تقرير المصير المواطني في مواجهة مشاريع الاستبداد والاضطهاد التي ينفذها الطغاة..
الرأي الجديد

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock