مقالات

دُرَّةُ البَهاءِ وعقدها الفريد

بشير العبيدي
#رقصةُ_اليراع
كانت الأميرةُ دُرَّةُ البَهاءِ تخدمُ شعبها الوديع الذي استوطن منذ آلاف السّنين ناحية من الأرض تقع على ضفّة نهرٍ عظيمٍ. وكان النّهر يجتاز غابةً مترامية كثيفة الشّجر وكثيرة الثّمر، تغطّي الرّوابي المحيطة والسّهول، حيث تعيش كلّ أنواع الحيوانات، تتغذّى ممّا تنبته الأرض أو من لحوم بعضها دون إسرافٍ.
وكان قصر الأميرة دُرَّةُ البَهاءِ يقع على أعلى ربوة في تلك المملكة، ويسمى قصر الخورنق، وفيه تجمع الأميرة كل جمعة مستشاريها ووزرائها وحكمائها لتدبير شأن المملكة، ولم تكن تقطع برأي أبدًا حتّى تقلّبه على كلّ الوجوه وتعرضه على شتّى المتناقضات، إلى أن تطمئنّ بأنّ قرارها يطابق شروط العدل وقواعد الإنصاف.
ولقد ورثت الأميرةُ دُرَّةُ البَهاءِ عن جدّها هذه الأمانة العظيمة التي هي خدمة الشعب، بعد أن تقاتل وتذابح إخوانها وأعمامها من أجل التّخطيط لافتكاك السّلطة، حتّى قبل وفاة الأمير الجدّ. ففكّر الجدّ مليًّا واستشار واستخار، ثم عزم على قرار خطير كاد أن يهزّ أركان المملكة، وهو التنحّي عن الحكم لفائدة حفيدته فائقة الذّكاء والفطنة واسمها “رحاب”، بعد أن منع ولاية العهد عن جميع الذكور من أبنائه وأحفاده بسبب تكالبهم على السّلطة والملذّات والشّهوات. وقام الأمير الجدّ بجمع أعيان المملكة وكبارها، وخطب فيهم خطبة عصماء، وأقنع أغلبهم بوجهة نظره، فقبلوا على مضض طاعة الأميرة فائقة الحسن، لأنهم لم يتعوّدوا أبدا أن تحكمهم امرأة، وخافوا من ضعف عقلها. ثم خطبت فيهم الأميرةُ الجميلة الفاتنة بلغة فصيحة مليحة فسمعوا منها كلاما حكيما منتظما ساحرا، كأنه الدرّ المبثوث على بساط الاستبرق، فاقتنع من كان متردّدا، وقبل كبار البلد إمارة الحفيدة رحاب.
وفي موكب التتويج، اجتمع أهل المملكة في صعيد واحد، وضُربت الخيام وأقيمت الولائم وتكلّم كبار القوم وممثّلوهم، وجاء الأمير الجدّ بالتّاج المُرصّع ووضعه على رأس حفيدته، ثم أمر بعقد فريد من نوعه كان قد أحضره الأمير الجدّ بمثابة مفاجأة لحفيدته، جمع فيه من قطع الألماس واللؤلؤ واليشب والزّمرّد وكريم الأحجار ما استطاع إليه سبيلا، وطلب من كلّ واحد من جواهريّ مملكته أن يعتني بقطعتين متماثلتين على انفراد ويصنع منهما شكلا لم يسبق صنعه أبدا، إلا جواهريّ واحد أمره بعمل قطعة وحيدة هي درّة من الألماس الخالص. فكان للأمير الجدّ ما أراد واجتمعت له القطع كاملة. وأمر الجد بصناعة أقوى خيط وأجوده، ووجّه بعمل العقد قطعة قطعة، وثبّت درّة الألماس في الوسط، فتمّ له عِقد من أبدع البديع وأرفع الرفيع. وبعد التتويج، قلّد الأمير الجدّ حفيدته بذلك العقد الفريد فسحرت بجمالها وبهائه الأعين، وسلبت بجلالها وإتقانه العقول، فلما رأى الجد روعة العقد على جيد الأميرة الحفيدة، أمرها ألا تقطع برأي حتّى تنظر لعقدها في المرآة وتشعر بالرضا، ثمّ أطلق عليها لقب “الأميرة درّة البهاء”، فصار اسمها الرّسميّ في المملكة.
ثمّ لم تمض أشهر، حتّى انتقل الأمير الجدّ إلى رحمة الله، فدفنوا جثمانه في موكب مهيب، وانصرفت الأميرة درّة البهاء لإدارة شؤون المملكة وتسهيل عيش رعاياها، والذبّ عن المملكة لدفع شرور الخونة والأعداء، فأبدعت في حسن الحوكمة ورشد الطريقة وإحكام السّياسة، وذلك أنّها كانت لا تقرّر قرارًا حتى تقف أمام مرآتها الكبيرة في قصرها وتنظر إلى جلال عقدها المتلألئ على صدرها، كأنّه الجمر المتوهّج في الدُّجَى، فتشعر بالغبطة والسّرور يملأ كيانها، وتقرّر القرار الأنسب فيصيب عينَ الحّق، حتى اطمأنّ لها الناس ونالت أوسع الأماكن في شغاف القلوب.
وكم تمنّت الأميرة درّة البهاء أن تتزوّج بشاب جميل الخَلق والخُلق، لكنّها خافت على شعبها تبدّل حالها وانشغالها بأميرها، فدافعت رغبتها، وغالبت شهوتها في سبيل راحة رعاياها. ثمّ عاودها الحنين حين تقدمت بها السّنوات وخشيت أن يفوتها موسم الإنجاب، فتحرم المملكة من نسلها ويأتي من بعدها من لا يعرف قدر شعبها فيخرب بيوتهم بظلمه. وفكرت مليًّا واستشارت، ثمّ قرّرت أن تتزوّج برجل صالح على أن يكون به صمّ وبكمٌ، تلافيا لأن يخوض في شؤون المملكة معها ويفسد حكمها، فبعثت في الآفاق باحثة عن كلّ شاب صالح به صمم وبكم، حتى عثروا لها على فتى فاتن الحسن، فائق العقل، قد فقد النطق صغيرا بسبب صدمة ناتجة عن اعتداء آثم عليه، لكنّه يسمع ويفهم القول. فلما علم بطلب الأميرة تمنّاها وانتحل نقيصة الصّمم طمعا في تحقّق المراد فكان له ما أراد، وحُمل إلى الأميرة درّة البهاء، ووقع حبّه في قلبها، واختبرته زمنا حتى استيقنت من صلاحه، فاشترطت عليه بالإشارة الامتناع عن أمور السياسة، فقبل بالإشارة ووقّع العهود، وتزوّجته في موكب عظيم بحضور شعبها، وخلعت عليه لقب الأمير الزّوج، وعاشت معه في رغد وتفاهم، وكان يسمع ويعي كل ما يدور في القصر الملكي ويتظاهر بالصّمم، حتى فهم جميع الأمور، ثم رزق الله الأميرة والأمير بالإناث والذّكور، وانبسطت الأميرة وفرحت وذهب غمّها، وخصّصت وقتا معتبرًا لتأديب أولادها وتعليمهم دربة الحكم العادل، وتدريبهم على العيش مع البسطاء لكي يدركوا حقيقة عيش رعاياهم ويفهموا ما يخفى من الأمور عند الناس.
وفي يوم من الأيام، شعرت الأميرة درّة البهاء بالضجر والملل نظرا لكونها لا تستطيع الكلام مع زوجها الأمير. ولا تتبادل معه سوى الإشارات البسيطة، ولا يمكنه أن يفعل شيئا يحتاج فيه إلى الكلام والسمع، فخرجت من قصرها تريد التجوّل في بستانها الكبير المحاذي للنّهر العظيم، ولم تنظر إلى عقدها في جيدها كما تعوّدت، وذلك بسبب القلق والضّجر من التكرار، فخرجت مع الخدم تريد الفسحة، وجلست تحت شجرة وارفة الظلال، تتأمل الحيوانات الجميلة من طواويس وبطّ وإوزّ وديكة ودجاج وغزلان وغيرها، ووتحتها النهر يجري بماء عذب، فبينما هي كذلك، إذ رأت على الشّجرة قردًا أفطس، أحمر المؤخرة، يفلي فروة قردة ويأكل قملها، فنظرت مليًّا وقهقهت بأعلى صوتها، لغرابة المنظر وسوء فعل القرد وشكله. فسمعها القرد، وقام بحركات بهلوانية لمزيد شدّ انتباه الأميرة، وانتقل من غصن إلى غصن، وعمل رقصات موغلة في الغرابة والدّهشة، فازدادت الأميرة درّة البهاء به اهتماماً، وأمرت بالموز، فرمت له بالموزة تلو الموزة، حتى شبع، ثم اقترب القرد الوقح من الأميرة يلاعبها ويداعبها، وازداد اقترابا بشكل خطير، وعمل حركات قبيحة، وتدلّى كأنه شريحة لحم من غصن الشجرة التي كان يستمسك بتلابيبها، ومدّ القرد الأفطس يده بسرعة البرق إلى جيد الأميرة يلمس عقدها الفريد… ولشدّة الغيرة والخوف على الأميرة، حين رأى الأمير الزوج ذلك المشهد المرعب، خشي على زوجته الأميرة درّة البهاء من أن يلمسها هذا القرد الأفطس الدّنيء ويلاعبها. وبلغ الغضب من الزوج الأمير مبلغا خطيرًا نظرا لعدم قدرته على النّطق، ولشدّة ما شعر به في صدّره انفجر بالصّياح ونطق بصوت مزمجر غير مفهوم، فخاف القرد وجذب بيده عقد الأميرة درّة البهاء، فبقيت في يده الألماسة العجيبة وتقطّع الخيط الناظم للأحجار الكريمة، وتناثرت الجواهر الثمينة الأخرى في كلّ مكان، وتدحرج أكثرها في ماء النّهر، أمام ذهول الأميرة التي صاحت مستنجدة بالجند للقبض على القرد وافتكاك الألماسة، وعمّ الهلع حاشية القصر.
تمّ القبض على القرد وافتكاك الألماسة العجيبة، ولكن الأميرة بقيت بين نارين، هل تفرح لزوجها الذي نطق وصار يتكلّم بعد سنين من البكم بفضل القرد، أم تحزن لفقد العِقد من جيدها وضياع الأحجار في ماء النّهر. ثمّ أمرت الأميرة درّة البهاء بنقل جميع القردة من بستان القصر، وطردها إلى غابة الوحوش، وبعثت في أثر كلّ سبّاح وغوّاص تعرض الأموال لمن يستخرج لها كل قطعة من قطع العقد الضائع، فحضر الشّباب المهرة، وتسابقوا للغوص كأنهم أسماك الدلافين، حتى وجدوا جميع الأحجار التي سقطت في الماء، إلا واحدة فقط، لم يعثروا لها على أثر، فقررت الأميرة عمل حجارة شبيهة في الشكل، وأرسلت في طلب الجواهريّين، تريد إعادة العقد الذي عمله جدّها الأمير، واشترطت أن يعود العقد كما كان بالتمام والكمال.
فانهمك الصّنّاع في العمل، وحاولوا مراراً وتكراراً أن يعيدوا العقد إلى حالته الأولى، وفي كلّ مرة، تحزن الأميرة وتذبل عينها الجميلة وتقول : إن العقد الجديد لا يشبه العقد الأصلي فاحتار الصّنّاع أشدّ الحيرة، وطلبوا من الأميرة أن تصف العقد الذي كان في رقبتها كيف كان، فما استطاعت وصفه، لأنها كانت كلّما نظرت إلى المرآة، كانت لا تنظر إلا لجمال العقد وأثره على بهائها، ولم تنظر إلى ما خلف ذلك الجمال من صنعة وتنسيق وألوان وأشكال. ولما سألوا زوجها الأمير، عجز هو أيضا عن وصف العقد، لأنه كان حين يشاهده على جيد الأميرة ينصرف تفكيره إلى نفسه كم هو سعيد بأميرته الحسناء وعقدها المتفرّد، ولم يكن يفكر أبدا في سبب جمال العقد. وساد جوّ من الكآبة في المملكة بسبب العجز عن حل مشكلة العقد، وأصبحت الأميرة في حالة يرثى لها من الحزن، وذهب ما كان بها من سرور وفرح، وصارت تغضب لأتفه الأسباب، وأمست تتخذ القرارات دون الاستشارة، ونال الرّعية من قراراتها الجديدة الكثير من الضيق والتبرّم، وصار أمر المملكة إلى الانحدار، وبدأ وجهاء المملكة في التململ، وكثر الحديث عن الحلّ الممكن، حتى تجرّأ صغار القوم على الأميرة، وصاروا يطمعون علنا في افتكاك السلطة من يدها بتعلّة عجز الأميرة درّة البهاء.
وفي يوم من الأيام، بينما كانت الأميرة جالسة تتأمل وتفكر وهي حزينة على عقدها الفريد وتنظر من نافذة القصر، رأت شيخا كبيرا طاعنا في السنّ يجلس تحت شجرة، وتبدو عليه علامات الفقر والفاقة، يحمل بين يديه أليافًا من أغصان الشجر، يفتلها بشكل عجيب ويصنع منها السّلال والأشكال، فتعجبت لإتقان الصّنعة وقدرته على فتل وخرز وتشبيك الأغصان بشكل مدهش غريب، فيصنع منه ما يريد. فأمرت بإدخاله إلى القصر، وسألته إن كان قادرًا على إعادة عقدها الفريد كما كان، بعد أن عجز الصنّاع في المملكة عن إيجاد شكله الأول. فأمر الشيخ بإحضار القطع جميعها، ونثرها على منضدة وتأمّلها مليّا مدّة ساعة، ثم رفع رأسه تجاه الأميرة وقال لها : لو أمرتْني الأميرة بالانصراف اليوم، سأعود إليها غدًا وأعيد ترتيبه على ما كان. فقبلت الأميرة درة البهاء ذلك، وانصرف الشيخ.
ومن الغد، عاد الشيخ إلى قصر الأميرة درّة البهاء بعد صلاة الصبح، وطلب مواصلة العمل، فما هي إلا سويعات حتى أعاد العقد على هيأته الأولى، أمام ذهول جميع الجواهرييّن، والحاشية والأمير الزوج والأميرة درّة البهاء. فكافأته الأميرة بأموال، لكنه رفضها، وآثر أن يعيش من كدّ يده. فرجته الأميرة درّة البهاء أن يكشف لها سرّ العقد الفريد، فجلس الرجل، وحمد الله وخطب في الحاشية والحجاب أمام الأميرة قائلا :
أيها النّاس، لقد نظرتُ في شكل عقد أميرتنا الفريد، فوجدت جماله أشبه شيء بحياتنا كلها في هذه المملكة الآمنة. وما كان الأمير الجد ليصنع مثل هذا العقد من دون تأويل لكل قطعة فيه. ولقد نظرت في تأويل شكل لؤلؤ الألماسة الوحيدة الواسطة، فوجدته أشبه شيء بالعدل الذي هو أساس الحكم. ونظرت في حجارتي الفريد، فوجدتهما أشبه شيء بقوّتين هما اجتماع الناس واجتماع الجند وبهما مناعة الحكم. ونظرت في حجارتي الزّبرجد، فوجدتهما الأخلاق والقيم وهما يحفظان القوة من الجور، ونظرت في حجارتي الجُمان، فوجدتهما العلم والفهم، وبهما النّفاذ إلى المعاني، ونظرت في حجارتي المرجان، فوجدتها الخطاب والتواصل، وبهما الإفهام للغير وترتيب الصورة عند الآخرين، ونظرت في الياقوتتين، فوجدتهما الأدب واللسان وبهما العقل والبيان، ونظرت في الجوهرتين، فوجدتهما القضاء والتّعليم وبهما الاستقرار والاستمرار، ونظرت في الزّمرّدتين، فوجدهما الإيمان والعمل، وعليهما يقوم الإنجاز، ونظرت في الدرّتين، فوجدتهما الحكمة والإتقان، وبهما يتّسق القول مع الفعل، ونظرت في العسجدتين، فوجدتهما الفنّ والإبداع، وبهما التميّز والتفاضل. غير أنه يا أيّتها الأميرة، فإن مرجانة التّواصل ليس بالأصلية بل هي مقلّدة، لقد ضاعت إحدى المرجانتين بسبب القرد الأفطس.
فسألت الأميرة درّة البهاء عن سبب ضياع مرجانة التّواصل الأصليّة، فأجاب الشيخ : “ذلك يا مولاتي تأويل التّواصل مع السّفهاء من الكائنات. فإنّ مخالطة السّفهاء تورث فساد العقل، لأنّ السّفيه دأبه توريث الرّداءة التي هي ديدنه، فلمّا رأت الأميرة أن تتواصل مع قرد أفطس لمجرد التسلية، انتقل القرد سريعا من التسلية إلى تجاوز الحد لأنه لا عقل يحبسه. وانتهى أمره المنكر أن قطع عقد الأميرة، وجرّأته السّفاهة على غشيان الرّداءة. وقد قالوا : إنّ الرّداءة هي سرطان الحكم”.
وكم تمنّت الأميرة درّة البهاء أن يقبل الشيخ العمل في حاشيتها، تستشيره في مستغلق الأمور، لكنّه آثر العودة إلى عمله الأول في صناعة السّلال من ألياف الشّجر وقال : إنّ الحكمة تقتضي الحرّية. ووعد بخدمة الأميرة عند الحاجة الطارئة، وخرج الشيخ الحكيم خفيفا كما دخل، بلا مكافأة على عمله عدا زيادة التقدير والإجلال، وهما عنده ممّا لا يشترى بالمال ولا بالعيال.
رمضان 1438
كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا .. وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock