تدوينات تونسية

مواطن الإعجاب… في تفاصيل الخطاب

محمد القرماسي
دون اعتبار لتوقيت الخطاب الرئاسي وما سبقه من توقعات وسيناريوهات أريد منها التسويق الاتصالي المقصود والمدروس… وبعيدا عن المنطق النمطي للاصطفاف مع أو ضد ما يقدمه رئيس الجمهورية من مقترحات أو مبادرات سواء كانت ضمن ما يتيحه له الدستور من صلاحيات أو ما يجود به من توجيهات للحكومة والأحزاب المؤتلفة والمؤلفة قلوبها معه… وبالتسلح بالكثير من الموضوعية والواقعية السياسية… يوجد في خطاب رئيس الجمهورية أربعة معاني إيجابية أو على الأقل مطمئنة بالنظر إلى ما توقعه المحللون، الذين انتشروا لأيام سبقت الخطاب في المنابر الإعلامية يولولون وينذرون بالانقلابات والكوارث التي تتجه لها البلاد.
بداية قد يبدو المعنى الذي انطلق منه الرئيس في خطابه مبشرا جدا بل ومفاجئا بالانطلاق من الثورة والديمقراطية والمؤسسات باعتبارها أسس لا رجوع عنها ومصدر افتخار التونسيين بين جيرانهم وفي العالم… ومكاسب لابد من الحفاظ عليها كالحرية والديمقراطية والمؤسسات المنبثقة عن الشعب، وهذه كلها معاني ومبادئ تخلى عنها وأمعن في ترذيلها ولا يزال طيف كبير من السياسيين وخاصة الإعلاميين المنتصرين للمصالحة الشاملة التي يقصد منها هدم المسار والتراجع عليه… وفي هذا يحسب للرئيس، وهو من واجبه حماية والوفاء للثورة والشهداء، فأن يؤسس عليها الخطاب سيعني أن ما يلحق من أفكار هي ضمن هذا الإطار المفهومي والقيمي الذي يتقاسمه الشعب التونسي برمته… ولو تعمقنا سنقول لعل الرئيس الباجي قائد السبسي أراد نوعا من سحب البساط أو إفراغ خطاب مناهضيه من معاني الثورية التي يواجهونه بها أو على الأقل تأسيس مقترحاته في المصالحة على هذا المعنى فلا تضارب بين المصالحة والثورة بل هي اقتضاء وضرورة ثورية لشعب ودولة تتعرض لتحديات اقتصادية واجتماعية تهدد الاستقرار والمؤسسات التي أنتجتها الثورة… وهذا المدلول حوصلته الجملة التي انطلق منها بوصفه أن المسار الديمقراطي مهدد.
المعنى الثاني، والذي لا اعتبره بتاتا المقصود من الخطاب أو محوره إلا ظاهريا، وهو تكليف الجيش بحماية المؤسسات ومواقع الإنتاج جاء في سياق احتياج واقعي وهو أيضا قرار افلح الرئيس في التمهيد له ليكون المخرج من الاحتجاجات التي تتجه إلى التصعيد بتعطيل الإنتاج وغلق المؤسسات وفي هذا تبدو حجته قوية ربما انتظرها الكثيرون… ممن يختزلون الاحتجاجات في أنها تعطيل للإنتاج، وإن كان الكلام عن المحتجين راوح كثيرا بين إعطائهم الحق في المطالبة بالتشغيل والتنمية وبين ضرورة الصبر والتعقل وعدم تعطيل الإنتاج وقطع الطرق، فإن هذا الجزء من الخطاب أعوزه فيه المقترح العملي وكأنه فوض الأمر للحكومة والأحزاب لمعالجته. وهنا ربما سيكون الخطاب محبطا لدى فئات المعتصمين ومن يناصرهم.
المعنى الثالث الذي بدا مبثوثا متقطعا في تفاصيل الخطاب تدرج به الرئيس بكلمات ودعابات، تخفي من المعنى أكثر مما تظهر، هو التأكيد على صلابة الوفاق السياسي والوحدة الوطنية سيما مع الحليف الأكبر النهضة بالرجوع أولا إلى بدايات الاتفاق الثنائي وتسويقه باعتباره القاعدة الصلبة التي أسست الاستثناء التونسي ومصدر إعجاب العالم، ثم تفنيد والتقليل من قيمة المشككين في نوايا التحالف والمحرضين على كسره أو إفساد العلاقة ويكفي دليلا على ذلك الكلام المباشر عن لقاء باريس والتصريح بأن الرجلين أرادا مصلحة تونس فوق الأحزاب، وأن ليس في اللقاء ما يمكن إخفاؤه فوق الطاولة ولا تحتها… هذه الطمأنة على التحالف الثنائي الذي يمثل محور الائتلاف الحكومي دعمه الرئيس بإشارات إلى المنظمات الوطنية المعروفة، استجداء أو تحذيرا لها بضرورة الالتفاف حول الحكومة ومواصلة دعم وثيقة قرطاج، وفي هذا قطع للطريق أمام كل من ينتظر أو يتمنى انفراط عقد التحالف والائتلاف مضمنا حديثه صعوبة وجود البديل وانه لا خيار عن التوافق والوحدة.
بل إن مجمل الخطاب هو مزيد التسويق للوحدة الوطنية والتوافق بمعاني الاعتزاز بتونس وكل أبنائها وكل مكونات المشهد السياسي على اختلافها… وفي هذا وفاء أيضا لمبدأ رفض الإقصاء واستهداف أي طرف مهما كان بعيدا أو مناهضا. ولعله تلميح أقرب للتصريح باستدعاء لأحزاب تراجعت على غرار التكتل والجمهوري وخاصة الحراك… بشيء من استنطاق بعض الكلمات والتلميحات.
المعنى الرابع والذي حاز الكثير من التوقعات وجعله المحللون في محور الخطاب ومقصده وهو قانون المصالحة… وإن كان الكلام فيه لا يبدو جديدا فإن اختيار موقعه من الخطاب وتسلسل الأفكار يدل على أن المصالحة ما تزال الخيار الاستراتيجي لرئيس الدولة ومنظومة الحكم. بل إن الكلام الذي سبق التطرق لقانون المصالحة مهد جيدا لتقديم حجج وضرورات المصالحة باعتبار أن الاحتجاجات وقطع الطرق وتعطيل الإنتاج خلق مناخا لا يشجع على الاستثمار الخارجي فإذا أضيف له خوف وتعطل العمل الإداري والاستثمار الداخلي، سيجعل مطلب التنمية والتشغيل امرا مستحيلا وهذا منبع الخطر وهذا أيضا سبب التمسك بالمصالحة.
إلا أن الرئيس كان متحكما في نبرات صوته لم يظهر متوترا ولا متشنجا في التطرق إلى موضوع المصالحة، ولعل ذلك يقصد به خفض منسوب التجاذب حول موضوع المصالحة… وكأنه يقلل من أهميته لرئيس الدولة الذي لا يريد تجاوز صلاحياته وأن مقترحه لا يتعدى المساهمة في دفع العمل الاقتصادي وتجاوز الأزمة ملمحا إلى تمسكه بالتشاور والتعاون في هذا الأمر… وقد لوحظ استنكاره للاتهامات الموجهة للقصر والحكومة بالدفاع عن الفساد والفاسدين وهو العنوان الذي يستعمله كثيرا رافضي القانون في صيغته الحالية.
خطاب رئيس الجمهورية لم يقدم مبادرة، لم ينحرف عن صلاحياته الدستورية، واصل رفع رصيده الرمزي كضامن للاستقرار وللمؤسسات الدستورية وتطبيق الدستور… وعموما بقدر خيبة المنتظرين لحل راديكالي في أي اتجاه يكفيهم عجزهم أو ما يتوقعون… بقدر الطمأنينة التي بعثها الخطاب داخليا وخارجيا على الوضع السياسي وآمال قليلة في تحسن الوضع الاقتصادي بضمان استمرار الإنتاج… ويبقى تجاوب الشارع وعموم المواطنين وخاصة المعتصمين والمحتجين تحكمه صيغ التحاور والتفاوض الحكومي معهم.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock