تدوينات عربية

أسفاري واللغات الحية (19)

أحمد القاري
بالنسبة لي كانت عبارة “اللغات الحية” الشائعة في الوسط التعليمي تعني الفرنسية والإنجليزية، وربما الألمانية والإيطالية وحتى الروسية باعتبار الإتحاد السوفياتي كان حيا عندما كنت في مستوى الإعدادي.
لكن حين زرت شرق آسيا تبين لي أن اللغات الحية في عرفنا ليست حية بما يكفي عندهم. فهم يعتمدون في كل شيء على لغاتهم الأم.
الأمر ينطبق على هونغ كونغ مع كونها ظلت تحت التاج البريطاني حتى يوليوز 1997. وبرغم كون الإنجليزية إحدى اللغتين الرسميتين في الإقليم فلغة العمل والدراسة والإعلام واقعيا هي الصينية.
أما في البر الصيني فقد دهشت حين وجدت الحاجة ماسة لوجود مترجم عند زيارة طبيب متخصص في الأنف والأذن والحنجرة. لم يكن البروفيسور رئيس القسم في مستشفى شين جين الثاني يحسن شيئا من الإنجليزية أو الفرنسية.
كان ذلك شيئا صادما في البداية. ولكن الحصول على وصفات طبية بالصينية وشراء أدوية لا تتوفر معها نشرات بغير الصينية بل ولا تكاد تعرف بغير أسمائها الصينية سيتحول إلى أمر عادي ومقبول.
لاحقا سأدرك أن الأمر ليس خاصا بالصين وحدها.
فقد كنا نستخدم كامرات من إنتاج سوني. واحتجنا بعض التفاصيل التقنية لشرائح تستخدم في كامرات المراقبة. دخلت موقع الشركة وبحثت عن النموذج المطلوب. وحصلت على ملفات تشرح خصائصه. لكني لما حملت ملفات مفصلة وجدتها متوفرة باللغة اليابانية فقط.
البحث والتطوير في اليابان يتم باليابانية، ويا للهول، برغم نظام كتابتها المعقد. وبرغم أنه لا أحد يتحدثها خارج اليابان.
وقد حضرت خلال معرض في تايبيه في تايوان عرضا قدمه واحد من مهندسي سوني حول تقنيات شرائح كامرات المراقبة التي ينتجونها.
كان ظريفا وودودا وكان العرض التقديمي الذي يشرح من خلاله جيدا ومليئا بالمعلومات الثمينة.
ولكنه كان يعاني مع نطق الإنجليزية. ولم يكن يكف عن قول “هي” كل جملتين أو ثلاث. وكان واضحا أن المعلومات التي يقدمها مترجمة عن أصل ياباني.
وخلال لقاء آخر حضر ثلاثة من مهندسي توشيبا على هامش نفس المعرض لشرح خصائص شرائح الكامرات التي تنتجها شركتهم.
وكانوا مثيرين للشفقة بسبب العذاب الذي عانوه للحديث بالإنجليزية. كانوا يتصببون عرقا وهم يتناوبون على تقديم المعلومات ويجبرون حلوقهم وألسنتهم على إنتاج أصوات الإنجليزية الغريبة. ولم ينته العرض حتى رحمتهم وتمنيت لو كانوا نشؤوا في المغرب لكي يتعلموا ترويض ألسنتهم على كل الرطانات اللاتينية والساكسونية وهم بعد رضع.
ذكرني ذلك بسيدة يابانية طلبت مني وشابا أميركيا من نيويورك كان معي في منتصف التسعينات بالدار البيضاء أن ندلها على مطعم مغربي تقليدي يمكنها أن تتناول فيه طاجينا. وفي الطريق كانت تتحدث مع الشاب الأميركي الأسود بما يمكن أن نطلق عليه تجاوزا إنجليزية. وكان هو يتحدث بلكنة شباب نيويورك السود كما هي عادته. كانت المعاني بينهما تضيع بحيث قال هو: منذ متى حضرت من اليابان؟ فكان جوابها: عندي بوي فريند.
تعجبت من حال اليابانيين مع الإنجليزية وهم الذين استسلموا لأميركا بعد الحرب الثانية واعتمدوا على التعاون معها في استئناف نهضتهم العلمية والاقتصادية.
ويبدو واضحا جدا أنهم بعد الحرب واصلوا استخدام اليابانية في كل المجالات وأنهم لم يحلوا مكانها الإنجليزية، لأنهم ربما لم يتوفروا على كفاءات مثل تلك الموجودة في المغرب الكبير.
والظاهر بناء على ما سبق أن الأمم تستطيع تحقيق أقصى درجات السبق العلمي والتطوير والبحث وتستطيع أن تجعل جامعاتها تتبوأ الصدارة عالميا دون أن تتنازل عن استخدام اللغة أو اللغات الوطنية.
وما يحتاج بحثا وإثباتا هو: هل يمكن لأمة أن تحقق نهضة علمية وتفوقا في البحث العلمي ومكانة لجامعاتها بلغة مستعارة؟
#لغات_حية 19
اليابانية عندها بوي فريند

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock