تدوينات عربية

أسفاري واللغات الحية (2)

أحمد القاري
تأكدت أن زيارة هونغ كونغ لا تحتاج تأشيرة مسبقة. فالمسافر من أغلب بلدان العالم يمكن أن يحصل على “تأشيرة عند الوصول” في المطار وبدون تكاليف. اشتريت تذكرة ذهاب وإياب من طيران الإمارات. وهو طيران سأرتبط به لسنوات. ولكثرة الأسفار معه سأحصل لاحقا على بطاقة المسافر الذهبية وعلى ترقية التذكرة إلى درجة رجال الأعمال في نسبة مهمة من الرحلات.
طيران الإمارات ومنافسوه من الخطوط الخليجية نماذج لما يمكن إنجازه بالمال وبإرادة قوية لتحقيق النجاح. لا أحد ظن أن هذه الشركة ستمضي بعيدا يوم أسست وخصوصا بالنظر لطريقة بدايتها المتواضعة.
في منتصف الثمانينات خفضت طيران الخليج خدماتها إلى دبي. فقررت إمارة دبي تأسيس خطوط خاصة بها. وتم ذلك بالتعاون مع الخطوط الباكستانية التي وفرت للشركة الوليدة طائرتين بالإيجار وتولت تدريب الطاقم. رأس المال كله أتى من حكومة دبي وكان عشرة ملايين دولار.
و للمقارنة فقط، فقد كان أسطول الخطوط الملكية المغربية عند تأسيسها، ثلاثة عقود قبل أختها الصغرى الإماراتية، سبع عشرة طائرة.
في يونيو 2005، وقت رحلتي، كانت عشرون سنة مرت على تأسيس الشركة. وكانت قطعت شوطا هائلا من التطور. كان واضحا أنها شركة لا تضع لنفسها نسب نمو عادية أو أفق تحسين محدودا فقد كانت عازمة على منافسة الكبار.
اعتمدت الشركة مبدأ التحسين المستمر ووضع الزبون في مركز الاهتمام والتأكد من أن تمر تجربته خلال السفر وقبله وبعده مع خدماتها في أحسن الظروف. ومن أجل ذلك تم الاعتماد على طاقم من كل أنحاء العالم. مع عملية انتقاء صارمة متبوعة بتدريب جيد ومتابعة اشتكى موظفو الشركة أحيانا من أنها توقع عليهم ضغطا كبيرا.
تعتمد الشركة العربية والإنجليزية لغتين أساسيتين. كل تعليمات الأمان والمعلومات المقدمة للمسافر قبل وأثناء الرحلة تتم بالعربية أولا ثم الإنجليزية ثم لغة البلد الوجهة. ولكن بصمة الدور البريطاني القوي في الإدارة واضحة جدا. فكما هي حاضرة في جودة الخدمات والعناية بالزبون فهي واضحة في الوضع المتميز للإنجليزية حيث هي لغة الحديث الافتراضية. وواضحة أكثر في قوائم الطعام التي توفر عددا كبيرا من أنواع الخمور خاصة في درجة رجال الأعمال. ومن الطريف أن قائمة الخمور ليست مترجمة للعربية. وأن قائمة الوجبات تنص على أن الطعام المقدم على الرحلة “حلال”.
وتميز الوضع الاجتماعي للحديث بلغة داخل مجتمع مقارنة بلغة أخرى شيء ملاحظ في مجتمعات لغوية كثيرة. ومثاله واضح في دول شمال إفريقيا الفرنكفونية. فقد كان تحدث الشخص بالفرنسية مظنة للحصول على خدمة أفضل عند التعامل مع الإدارة والشركات ومحترفي المهن الحرة. أن تبادر بالحديث بالفرنسية وأنت تخاطب شخصا بالهاتف أو مباشرة يعني بالضرورة أنك متعلم ومن الطبقة المتوسطة على الأقل، وربما يخشى أن ترفع صوتك إن تعرضت لمعاملة غير ملائمة.
وتجد الكثيرين يحرصون على اختيار الفرنسية عند الاتصال بخدمات شركات الاتصال والنقل مثلا. ويشيع بين الناس أن اختيار القناة العربية يعرضك لتلقي خدمة مطبوعة بالجفاء والعجرفة. قد يكون ذلك وهما وقد يكون حقيقة. ولكنه مؤثر على اختيارات الناس اللغوية في كل حال.
وقد أخبرني مالطيون أن الحديث بالانجليزية ظل مرتبطا بالرقي الاجتماعي حتى السبعينات. حينها بدأ المجتمع في معاقبة من يتحدث الانجليزية في سياق لا يقتضيها بالنظر إليه على أنه شخص مباه ومتكبر. واليوم يرى زائر جزيرة مالطة أن المالطيين يتحدثون مع بعضهم لغتهم الأم، المتفرعة عن العربية، في جميع السياقات. حتى إن الطلبة الأجانب يشتكون من أن الطلبة المالطيين كثيرا ما يوجهون الأسئلة للأساتذة بالمالطية بالرغم من أن الإنجليزية هي لغة تدريس العلوم والطب والهندسة في الجامعة. وهو أمر ربما يتسع المجال لمناقشته وتفسيره لاحقا.
في الطائرة كنت أتأمل أحيانا أسماء الأطعمة الغريبة في قوائم الطعام، بالعربية والإنجليزية. وأتساءل عن سر اقتصار قوائم الطعام في المطاعم المغربية على الفرنسية. وهو تقليد يظن كثير من أرباب المطاعم في البلدان المغاربية أن كسره يعني أن الطعام المقدم يفتقد الجودة.
وهو موقف يجب أن يكون مثيرا للسخرية إذا علمنا أن جملة (كافي صون سيكر) مثلا، تحتوي كلمتين دخلتا اللغات الأوربية من العربية وهما القهوة والسكر.
ولبيان “التعدد اللغوي” للخطوط الإماراتية، يذكر واحد من الطاقم في بداية الرحلة اللغات المتوفرة: “طاقمنا على هذه الرحلة يتحدث اللغات العربية والإنجليزية و…” معددا اللغات التي يتحدثها المضيفون والمضيفات. وهي ليست بالقليلة على رحلات تضم غالبا أكثر من مائتي راكب، وطاقما كافيا للسهر على خدمته.
كان العنصر الصيني غالبا على المسافرين. وهو عنصر ستقل نسبته من المسافرين بين دبي وهونغ كونغ بالتدريج خلال السنوات الموالية مع تحول الصين إلى وجهة شعبية للتجارة والسياحة والدراسة وحتى العلاج.
لاحظت أن الركاب أخذوا أماكنهم بسرعة. وأن أمتعتهم اليدوية ليست كثيرة. الدربة وألفة السفر وطاعة التعليمات لها دورها. وهناك أيضا حقيقة أنهم لن يحملوا كثيرا من المشتريات إلى هونغ كونغ، وهي إقليم تجارة حرة لا تفرض فيه على الواردات رسوم جمركية وليست فيه ضريبة على القيمة المضافة مما يجعله جنة تسوق تتفوق بمراحل على دبي نفسها.
كانت فرصة لتحقيق الألفة مع أصوات اللغة الصينية بصيغتيها الماندرين، و هي لغة بكين واللغة الرسمية في الصين، والكانتونية وهي لغة التواصل الشفوي في هونغ كونغ. وبينهما فرق كبير في الأصوات بسبب خاصية النبرات، التي لا نعرفها في لغاتنا.
و النبرات خاصية في عدد كبير من اللغات في شرق آسيا. وهي تعني أن لكل مقطع صوتي نبرة خاصة به. ولكل لغة نبرية عدد من النبرات. فالصينية بها خمس نبرات. بينما الكانتونية لها ما بين ست و ثماني حسب المنطقة.
وفي النبرات قصير وطويل ومرتفع ومنخفض وما يجمع بينهما في تفصيل تحتاج دراسته وفهمه شرحا خاصا. وفيها أيضا النبرة المحايدة وهي أقرب شيء لطريقتنا في النطق.
والنبرة شيء مدهش حد الإزعاج لمن لا عهد له بها. حتى أننا لا نكاد نسمع من الصينية إلا نبراتها. وغيابها في لغاتنا يجعل الصيني يقول إنه لا يميز أصوات ما ننطق به فالحرف خافت لا طعم له بالنسبة لأذن الصيني ما لم توضع عليه حركة النبرة لمستها.
ويعاني دارس الصينية من غير متحدثي اللغات النبرية صعوبة إضافية لا يجدها الناطقون بلغات مثل اليابانية و الفيتنامية مثلا. ومكمن الصعوبة في دراسة أي لغة هو درجة اختلافها عن أسرة اللغة الأم للمتعلم. ومن هنا ربما يحسن الحديث عن درجة اختلاف اللغة الأجنبية عن لغتك الأم وليس بالضرورة عن درجة صعوبة اللغة. ويتجلى هذا في درجة سهولة تعلم الإسبانية للمتحدث بالبرتغالية وسهولة العربية على الناطق بالعبرية وسهولة الصينية على المتعلم الياباني. مع التأكيد على أن استخدام كلمة “سهولة” هنا نسبي تقريبي.
تمر مدة الرحلة وهي ثماني ساعات سريعة، خاصة لأول مرة، بفضل برنامج الخدمات ووسائل التسلية المتوفرة. سيظل الطاقم مشغولا بتقديم المشروبات ووجبتي الطعام والقهوة والشاي والطلبات الخاصة للركاب كل الرحلة ما عدى وقت الإقلاع ووقت الهبوط. ويتوفر كل مقعد على شاشة على ظهر المقعد أمامه أو تكون جانبية تدخل في ذراع الكرسي إن كان في الصف الأول. و يتوفر نظام الترفيه على عدد كبير من الأفلام والبرامج التلفزيونية والألعاب والقنوات الصوتية الكفيلة بالاستجابة لكل الأذواق.
إلا أن الوقت على الطائرة يتجمد حين تمر بمطبات هوائية، ويطلب القائد من الركاب شد الأحزمة والكف عن الحركة في الممرات واستخدام المراحيض. وربما يتم إيقاف خدمات الطعام عامة أو تقديم المشروبات الساخنة على الخصوص. حينها وبحسب درجة اضطراب الطائرة يسود الصمت المطبق. وترى الركاب يتفحصون وجوه الطاقم بحثا عن طمأنينة وهم يتساءلون عن درجة خطورة الوضع. فإذا طالت مدة اضطراب الطائرة ربما كان الكثيرون يعلنون التوبة من كل ذنوبهم. أو يتندمون على ركوبهم هذه الرحلة أو حتى على استخدام الطائرة من أصله.
وبرغم أن الطيران من أكثر وسائل السفر أمانا فإنه أكثرها إثارة لرعب مستخدميه. فالطائرة تتحرك في ثلاثة أبعاد. وحين تصادف مطبات فالقائد يغير الارتفاع هروبا منها مما يزيد شعور الاضطراب. والمطبات لا تثير قلق الطاقم لألفتهم بها وتعودهم عليها وعلمهم أن الخطر إنما يأتي من الأعطال التقنية المفاجئة. وهي ربما مفيدة لهم أحيانا ليخفف الركاب عنهم الطلبات والأسئلة.
ومن الناس من يخاف من السفر بالطائرة خوفا شديدا. وقد امتنع نجيب محفوظ، الكاتب المصري عن السفر بالطائرة مطلقا. حتى إنه بعث ابنتيه للنيابة عنه في استلام جائزة نوبل للآداب بسبب عدم قبوله السفر بالطائرة. وهو لم يسافر في حياته خارج مصر إلا في رحلة إلى اليونان بالسفينة.
تقطع الرحلة من دبي إلى هونغ كونغ بحر عمان والقارة الهندية وبحر الصين قبل أن تحط في مطار هونغ كونغ الذي تقع مدرجاته على الشاطئ. لذلك لا تكاد ترى اليابسة إلا وقد حطت الطائرة. إنه عالم مختلف بطقسه ودينه وعاداته وملامح أهله وخصوصا بلغاته.
#لغات_حية 2
طيران الإمارات

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock