تدوينات تونسية

جبهة إنقاذ قديمة جديدة: عندما يتعلق الثعلب بالعوسجة

صالح التيزاوي

أن يتجمع الناس على فعل الخير فهذا أمر محمود، ولكن أن يتجمعوا على الشر، فهذا سبب كاف لعدم الثقة بهم، مهما قدموا من حجج وبراهين، ومهما اختلقوا من أعذار.

أعلن هذه الأيام عن تأسيس جبهة سياسية، وتضم ثلاثة أطراف رئيسية: “المزروب” على السلطة، ويطلبها بكل ثمن ومهما كانت التكاليف، وكلما ضاقت عليه جبهة، فتح أخرى.

أما الثاني فهو صاحب الثروة الطائلة، ولكن ينقصه الراي والتدبير، فوقع على صاحب المشروع، ليعلنا زواج المتعة بين الثروة (سليم الرياحي) ومشروع سلطة (محسن مرزوق) وهكذا يصدق عليهما المثل “وافق شن طبقة”.

يُروى “أن ثعلبا أراد أن يتسلق حائطا، فتعلق بعوسجة (شجرة شائكة، تسمى في تونس العليقة)، فعقرت يده، فأخذ يلومها، فقالت: يا هذا،قد أخطأت حين تعلقت بي، ومن عادتي أن أتعلق بكل شئ”.

أما بقية الأحزاب، فهي غير وازنة ولا أثر لها في الحياة العامة أغلبها شارك في المحطات الإنتخابية السابقة ولم تحظ بالقبول، ويصدق عليها المثل “لو كان في البوم خير ما تركه الصياد”، وإنما دعيت بهدف “توسيع اللمة والحضبة”، كحال من أولم وليمة ودعا إليها الجياع ليس حبا فيهم ولكن ليتحدث الناس بمآثره.

اللافت للإنتباه في هذه الجبهة، أنها جمعت الأضداد: فيها صاحب الثروة (سليم الرياحي) الذي قدم لناخبيه في التشريعية، وفي الرئاسية وعودا بالتنمية وبالشغل وفي مختلف الجهات التي زارها، ولكنه لم يفتح مصنعا واحدا أو حتى “مشريع صغير”، في الوقت الذي ينفق فيه أموالا طائلة على “الكوارجية”. فهل يمكن للناس ان يمنحوا ثقتهم لمن أخل بوعوده ؟

أما الأحزاب الأخرى، فمنها الماركسي المعدل، ومنها اليساري الإنتهازي الذي لم يبق على شئ من الماركسية غير اعتبار “الدين أفيون الشعوب”، وما عادت الطبقات الكادحة تعنيه في شئ، وإنما أصبح يتطلع إلى بعض الفتات على موائد الليبراليين، مدعيا بانه يعمل على رص الصفوف من أجل التصدي للنهضة… أو هو يوهم نفسه بأنه في “مهمة نضالية”، حفاظا على “النمط المجتمعي”. وأكثر هؤلاء ساقطون في الإنتخابات السابقة، وهم يريدون تغيير جلدتهم لعلهم يحظون بالقبول من الشعب.

سميت هذه الجبهة “جبهة الإنقاذ”، إنقاذ من؟ وممن؟ وحتى يروجوا لجبهتهم أضافوا إليها عبارة “التقدم” كأنهم يملكون الوصفة السحرية للتقدم، أو كأن غيرهم ممن يستهدفونهم بجبهتم لا يريد التقدم، وهذه بداية االضلال والتضليل… التقدم ذهنية، وفعل وليس شعارا يستدعى في مناسبات التأسيس… منتهى التقدم، أن هذه الجبهة “الجديدة” هي استنساخ لجبهة قديمة، تأسست لإسقاط حكومة الترويكا، والتي اعتبرت في حينها، استنساخا لجبهة الإنقاذ المصرية التي دعمت انقلاب العسكر على الحكم المدني في مصر.

جبهة إنقاذ تقدمية، وتستدعي تجارب قديمة وفاسدة. بالامس القريب اجتمعت لتقويض الشرعية، واليوم تتشكل بنفس الذهنية القديمة: “السلطة مهما كان الثمن”، وإزاحة الآخرين بالإحتيال…

جبهة “الإخوة الأعداء” أعلنت في بيانها التأسيسي أنها قامت ضد حركة النهضة، وهذا أمر مشين، وغير مسبوق ! أي مستقبل لأحزاب وجبهات تبني مشروعيتها على أساس نفي ألآخر؟ وما إقحام حركة النهضة في بيان التأسيس إلا دليل على أن يدا أو أيادي من وراء الأفق، تمتد في هدوء لتعبث بالمسار الديمقراطي، وإذكاء نار الفتنة والإنقسام في تونس.

انتظرنا من الجبهة القديمة الجديدة، برامج وتصورات سياسية واقتصادية تخرج تونس من ازمتها، فإذا بهم يصوبون نيران أسلحتهم وقصفهم لحزب حكم ويشارك في الحكم بمنهج توافقي.

يروى أن عيسى عليه السلام “كان كلما مر بملإ من بني إسرائيل أسمعوه شرا، فيسمعهم خيرا”.

وجاء في الأمثال “كل امرئ ينفق مما عنده”.

وهذا يعني أن تجمع هذه الأحزاب قام على اساس نفي الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية، وانها لم تبرأ من مرضها القديم: منطق التخويف والتخوين، وهو ذات المنطق الذي حكم به المخلوع جمهورية الخوف والرعب، وأنها مازالت منغمسة في طفولتها السياسية، (رغم محاولة انتسابها للتقدم)، اقتصر وعيها السياسي على تدبير المؤامرات وتعفين الأجواء العامة، وإفراغ السياسة من مضامينها الأخلاقية، والعزف على ثناىية “التقدمية والرجعية” و”الحداثة في مواجهة الهوية” وهي قوالب استنفذت أغراضها في التعبئة والمواجهة، والبحث عن عدو، تستمد منه عنصر بقائها بانتظار المحطات الإنتخابية القادمة.

متى سيدرك هذا النمط من أشباه السياسيين أن حبل الكذب وإن طال فسيبقى قصيرا، وأن الفاشل لن يكون بطلا لمجرد ترذيل خصمه، وأن تنميق الخطاب بتشكيلة من الشعارات “الحداثة” و”التقدمية”، وترديد هذه الشعارات بمناسبة وبغير مناسبة لا يصنع حداثة حقيقية ولا تقدما فعليا… وان المعركة الحقيقية في تونس مع البطالة، مع الخدمات المتردية في التعليم والصحة، مع منوال تننمية كرس الحيف الإجتماعي، فانعدم التوازن بين الجهات، وأي شئ عكس هذا، إنما هو تلهية للشعب عن العمل الجاد، عن الإنشغال باستحقاقات الثورة، وبالتأسيس لحياة حرة وكريمة، عبث بها النظام النوفمبري.

وقبل هذا كله ثمة معركة لا بد منها… على النخب أن تخوضها بكل شرف… معركة في العقول… مع الرداءة الفكرية، مع التعالي الكاذب… مع منطق الإقصاء والإستئصال… مع استدعاء الماضي البغيض وهو منطق جرب لأكثر من ستين عاما، فما أورثنا سوى الخراب.

(وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) سورة فاطر.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock