تدوينات عربية

صناعة الوعي

منير إبراهيم تايه
عندما يتساءل الإنسان عن شيء ما أو ينتبه من غفلته أو نومه أو يفكر في ذاته أو وجوده، فإنه يلجأ إلى وعيه وإدراكه التلقائي، فوعي الإنسان يحضر كلما تساءل عن ذاته وحاول معرفتها، وهذا ما يسمى بالوعي التلقائي، فالوعي يشكل السمة الأساسية الكبرى التي يتفرد بها الإنسان وخاصية جوهرية تميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية الأخرى.
والوعي كلمة تعبر عن حالة العقل وإدراكه لما يجول حوله، ويدل الوعي أيضاً على التواصل المباشر مع المحيط الخارجي، عن طريق نوافذ الوعي المتمثلة بحواس الإنسان الخمس، والعديد من علماء النفس يعتبرون الوعي هو الحالة العقليّة للإنسان، يصاحب كل أفعال الإنسان.
يتمظهر ذلك على مستوى الحياة العملية، فنتحدث عن وعي أخلاقي أو وعي سياسي مثلاً، فللوعي أشكال ومظاهر، وبالمحصلة فإن الوعي هو ما يتكون لدى الإنسان من أفكار ووجهات نظر ومفاهيم عن الحياة والطبيعة والمجتمع من حوله، لكن قد يكون الوعي وعياً زائفاً عندما تكون أفكار الإنسان ووجهات نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع من حوله، أو غير واقعي، وقد يكون جزئياً، وذلك عندما تكون الأفكار والمفهومات مقتصرة على جانب أو ناحية معينة وغير شامل لكل النواحي والجوانب والمستويات المترابطة، والتي تؤثر وتتأثر في بعضها.‏
ومن الناحية اللغوية فكلمة وعي مصدر مشتق من فعل: وعى يعي، فنقول: وعى الشخص، أي انتبه من نومه، وجاء في القاموس المحيط: وعى الشيء والحديثَ يعيه وعيا: حفظه وتدبره وقبله وجمعه وحواه، وأوعى الشيءَ والكلامَ: حفظه وجمعه، ووعى الغلام: ناهز الإدراك.
فالوعي يعني لغةً الإحاطة بالشيء وحفظه واستيعابه والتعامل معه أو تدبره، إنها حالة إدراك الشيء وتعقله، وهكذا نلاحظ أن لمفهوم الوعي دلالات متنوعة قد يكون الوعي هو العقل أو الشعور في مقابل اللاوعي.
ومن أكثر الأشياء التي نفقدها اليوم هو الوعي، ففي غيبة الوعي يتخبط الإنسان ويتراجع المجتمع فكرياً وحضارياً ودينياً، فالوعي هو الفهم وسلامة الإدراك، ويقصد بهذا الإدراك إدراك الإنسان لنفسه وللبيئة المحيطة به، والوعي والإدراك لا ينفصلان، فالوعي هو الإدراك الصحيح لما يدور حول الإنسان من وقائع وأحداث، فحين نقول وعى فلان: معنى ذلك أنه انتبه من نومه أو غفلته أو أدرك الشيء ثم عقله، والوعي هو محصلة لتلك الأفكار والمعلومات التي تدور في رأس الإنسان وفي عقله وتتأثر بها قراراته، والإدراك هو مفتاح الوعي والعامل الأساسي لحدوث الوعي.. ويقصد بالوعي الفهم العميق، وإدراك الحقيقة، وتشخيص الواقع، وتحديد الأولويات، وتمييز الالتباس، واكتشاف التزييف والواقع.
والإنسان الواعي من وجهة نظر الكواكبي، هو الذي يملك رؤية فكرية نقدية، ويتميز بضمير اجتماعي ينسجم مع الآخر، إنه الإنسان القادر على إدراك أوضاع العصر والمجتمع الذي يعيش فيه وتحليلها منطقياً.
ويرى جون سكوت أن الوعي هو استيعاب “أو الانتباه إلى” الظواهر المتصورة أو التي يتم تجربتها، ويرتبط وعي الشخص بالعالم من خلال توسط الحواس بحسبانها الوسيلة التي يتم من خلالها بناء التوجهات ودورات العمل، وبالتالي فإن ممارسة الانتباه والتفكير والحكم تسمح بدرجة من السيطرة الواعية على الغرائز الموروثة من خلال التقييم العملي للوسائل وتأجيل الإشباع، إنها القدرة على الوعي التي تسمح للبشر بالتأقلم التدريجي مع الواقع الخارجي والتكيف معه، من حيث أنه وسيلة لتحقيق أهدافهم.
وبالمحصلة فإن الوعي هو ما يكون لدى الإنسان من أفكار ووجهات نظر ومفاهيم عن الحياة والطبيعة والمجتمع من حوله، لكن قد يكون الوعي وعياً زائفاً، وذلك عندما تكون أفكار الإنسان ووجهات نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع من حوله، أو غير واقعي.
وفي عملية الوعي فإن العقل هو وسيلة الإدراك، وصحة القرارات التي يتخذها الإنسان تعتمد على صحة المعلومات التي يتلقاها، فإن استوعبها فذلك يعني أنه وعاها، وحين تتراكم المعارف الصحيحة يحدث الوعي الصحيح، بينما إذا تراكمت المعلومات الكاذبة والمضللة فيحدث تزييف الوعي، فالوعي هو نتيجة للتفاعل بين أنفسنا وعالمنا المادي المحيط بنا، وهو يلعب دوراً هاماً في التطور الاجتماعي، سواء كان هذا الدور إيجابياً أو سلبياً، فالأفكار التي توجد لدى الناس قد تساعد على تطور المجتمع أو قد تكون عائقاً أمام هذا التطور.
تزييف الوعي يأتي من خلال السيطرة على الوعي الجماعي، بمعنى أن تزييف الوعي يحدث بتزييف الإدراك، فمن يريد أن يزيف وعيك سيقوم بتزييف إدراكك أولاً ثم التحكم فيه، وبالتالي توجيهه وفق أجندات وأفكار وتوجهات تخدم الفئة المسيطرة على ذلك الوعي، ذلك أن المجتمع لا يرى إلا ما يراد له أن يراه، وحتى الحقائق عندما تظهر، فستظهر بوقت محدد مسبقاً، ومعد مسبقاً، وأغلب الحقائق يراد بها باطل، وهكذا نلاحظ أن لمفهوم الوعي دلالات متنوعة فقد يكون الوعي هو العقل أو الشعور في مقابل اللاوعي.
يقول الدكتور فتحي الشرقاوي عن ظاهرة تزييف الإدراك: “نحن نرى العالم كما نريد أن نراه، وليس كما يجب هو”، ويُرجع ذلك لغياب الثقة في مصادر المعلومات التي تتطابق مع الواقع وحقائقه الماثلة، فإن سمع أحد أخباراً مع ميوله فإنه يميل لتصديقها فوراً حتى لو لم تكن موضوعية أو تنقل صورة حقيقية ليقع ذلك أن أغلب الناس تنظر للحياة بما يتلاءم ورؤيتها الشخصية، وذلك هو تزييف الوعي، فمن هنا تأتي عدم النظرة الموضوعية لما حولهم، فيسهل تزييف إدراكهم، لا بد من نقل الواقع بالحقائق، وإن كانت مرة ومواجهتها بمعايير واضحة حتى لا يسهل تزييف الإدراك.
إن السلطة غير الشرعية أو المستبدة لا تستطيع الاستمرار لفترات طويلة إلا إذا قامت بعمليات تزييف للوعي، فهي تريد أن تشكل هذا الوعي؛ لكي يقبل منظومة السلطة وتوجهاتها ومصالحها دون الحاجة إلى الإفراط في استخدام القمع الأمني الذي ربما يكلفها ثمناً سياسياً أو اجتماعياً كبيراً.
وتنجح عمليات تزييف الوعي أكثر في المجتمعات ضعيفة الثقافة التي لا تملك عقلية نقدية تزن بها الأمور، تلك المجتمعات القابلة للإيحاء والاستهواء والتنويم والتغييب، تلك المجتمعات العاطفية التي يسهل تحريك مشاعرها في الاتجاه الذي تريده الأدوات الإعلامية للسلطة.
وما أقصده بتزييف الوعي هو خلق أعداء وهميين للإنسان بديلاً عن أعدائه الحقيقيين أو طرح أهداف أمامه يتعارض سعيه لتحقيقها مع مصالحه الأساسية، فحين نشبت الحرب العالمية الأولى كان على الولايات المتحدة الأميركية التزامات تجاه الحلفاء يجب أن تؤديها، ولكن حال بين الحكومة الأميركية وتلك الالتزامات توجه الشارع الأميركي الذي كان رافضاً خوض حرب لا تعنيه، وكالعادة فإن الحكومات لا تقف مكتوفة الأيدي أمام الشعوب؛ كونت الحكومة لجنة أطلق عليها “لجنة كريل” تتلخص مهمتها في تغيير رأي الشعب الأميركي تجاه الحرب.
وفي غضون ستة أشهر نجحت اللجنة فيما أُسنِد إليها، وتحول الشعب الأميركي إلى داعٍ للحرب وليس فقط موافقاً عليها، فماذا فعلت لجنة “كريل”؟ وكيف تم الاستحواذ على الرأي العام الأميركي؟
يشير آرثر آيا بيرغر، مؤلف كتاب “وسائل الإعلام والمجتمع”، إلى تعرض جهازنا الحسي في الخطاب الإعلامي لوابلٍ مستمرٍّ من الصّور سريعة الحركة والمؤثرات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى أن تصبح قدرتنا على اتخاذ قرارات ومواقف عقلانية إزاء أي شيء أمراً صعباً، فالأخبار التي تصلنا، بحسب تود غيتلين مؤلف “وسائل إعلام بلا حدود”، ليست مرآة تعكس العالم؛ إنها منتج صناعي ونسيج معرفي يعزز مجموعات من الأفكار والأيديولوجيات.. العالم بشكل، ووسائل الإعلام تظهره بشكل آخر وفق ما يفسره المحررون وغيرهم ممن يتحكمون في الصور التي يسمح لنا رؤيتها والكلمات المسموح لنا سماعها أو قراءتها.
من هنا تأتي أهمية تحرير العقل من سلطان الوهم والخداع؛ ليصبح قادراً على فضح التزييف والتشويه الإعلامي المتعمد لإدراك الواقع من حيث كونه واقعاً كما يجب أن يكون لا كما يرغب آخرون في رؤيته.
إن الإعلام في النظام الديمقراطي هو بمثابة الهراوة في الدولة الشمولية لتضليل الشعوب لدرجة تدفعهم إلى الموافقة على أمور لا يرغبون فيها من الأساس، بل وخارج نطاق اهتمامهم، والهدف هو أن تغزو وسائل الإعلام العقل وهو في هذه الحال “المحيرة” بعد تشتيته والتدليس عليه، فتشكله ما استطاعت، وتحركه ما أرادت، وتوجه عناصر تفكيره إلى ما هدفت بالتزوير على الواقع؛ لتفصل الناس عن واقعهم، وهذه المسألة واحدة من درجات ما يمكن تسميته بغسيل المخ الجماعي، أو تزييف الوعي.
إن التأثير على وعي المجتمع هو الهدف الذي تسعى إليه كل الأطراف المتداخلة في تشكيل وعي المجتمع بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية والفكرية والسياسية، مستعملة في ذلك كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة الظاهرة والباطنة، هدفها في ذلك كسب المزيد من المنخرطين في دائرة الوعي المنشود لديها.
ولكن كلما ازدادت ثقافة الناس وتفتحت عقولهم، ضعف فيهم أثر التنويم الاجتماعي، وتزييف وعيهم ومخاطره؛ ذلك أن الكثير من عوام الناس يعتمدون في تشكيل فهمهم للعالم على ما يصلهم عبر وسائل الإعلام.
الحوار المتمدن

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock