تدوينات تونسية

أزمة المجلس الأعلى للقضاء بين “الإفتعال” و”إرادة الهيمنة”

القاضي أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء

ان التصويت الاخير على المبادرة التشريعية المتعلقة بتنقيح القانون الاساسي للمجلس الاعلى للقضاء يكشف عن خطر حقيقي يتهدد البناء الديمقراطي في ظل وجود اكثرية عددية (من بين نواب الشعب والاحزاب الكبيرة) لا تؤمن باستقلال القضاء. كما ان التحالف بين حزبين كبيرين (النهضة ونداء تونس) وممارسة الهيمنة (السياسية) على الشان القضائي يؤذن بتراجع كبير لدور القضاء في حماية الحقوق والحريات وبناء دولة القانون. ولا يخفى في هذا الشان ان “افتعال” ازمة التعيينات القضائية من قبل الحكومة قد ادى الى تداعيات غير محسوبة وفجر تحت قبة البرلمان الصراع القديم بين احزاب الحكم والاقليات على “سلطة القضاء” الذي وقع حسمه (ولو مؤقتا) دون أي اكتراث بمصالح الشعب.

ودون الدخول في تفاصيل تلك المبادرة -التي فتحت الباب لتدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في شؤون القضاء- فمن الواضح ان المبادرة نفسها قد “قدت كالثوب على قياس واضعيها” وكشفت عن انحياز الحكومة لشق من اعضاء المجلس الاعلى للقضاء لا يتجاوز الثلث (ولذلك اقرت انعقاد الجلسة الاولى بنصاب الثلث) واخلت باهم المبادئ الدستورية وهو مبدا الفصل بين السلطات لما سمحت بدعوة المجلس للانعقاد في اول جلسة من قبل رئيس مجلس نواب الشعب او احد نائبيه فضلا عن استبعاد رقابة القضاء على تلك الدعوة التي لا تقبل الطعن باي وجه ولو بدعوى تجاوز السلطة.

ورغم ما قيل لتبرير هذه “المبادرة التشريعية” فان الحكومة قد فضلت الاتجاه الى فرض هذا الحل مع وجود “مبادرة قضائية” توافق عليها ثلثان من اعضاء المجلس الاعلى للقضاء وصدور قرارات عن المحكمة الادارية تخالف تلك المبادرة.

وحتى لا نستعيد الحديث عن تطورات معقدة وتفاصيل كثيرة نلاحظ ان القانون الاساسي المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء قد اقتضى ان رئيس الهيئة الوقتية للإشراف على للقضاء العدلي يدعو “لانعقاد أول جلسة للمجلس في أجل أقصاه شهر من تاريخ تسلمه لنتائج الانتخابات” (الفصل37 الفقرة 2).

لكن تلك الدعوة لانعقاد اول جلسة -التي من المفروض ان تتم في اجل اقصاه يوم الاربعاء 14 ديسمبر 2016- لم تتحقق بسبب ان الرئيس الاول لمحكمة التعقيب -بوصفه رئيس الهيئة الوقتية للاشراف على القضاء العدلى- قد احيل على التقاعد الوظيفي منذ 1 ديسمبر 2016 وبذلك اصبحت هذه الخطة شاغرة منذ هذا التاريخ.

ويتضح ان احالة تلك الصلاحية الى رئيس الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي قد استندت الى ما اقتضاة الدستور من ان هذه الهيئة تواصل القيام بمهامها إلى حين استكمال تركيبة مجلس القضاء العدلي (الفصل 148 فقرة 2). وهذا المجلس -اضافة لمجلس القضاء الاداري ومجلس القضاء المالي والجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة- يعتبر من جملة الهياكل الاربعة المكونة للمجلس الاعلى للقضاء.

كما ان تزامن احالة السيد خالد العياري رئيس الهيئة الوقتية للقضاء العدلي على التقاعد مع تاريخ ارساء المجلس الاعلى للقضاء قد دفع الهيئة الى التوقي دون وجود عوائق امام ارساء المجلس ولذلك اتجهت الى تسديد الشغورات في بعض الخطط القضائية واستكمال تركيبة المجلس الاعلى للقضاء.

وتبعا لذلك تولت الهيئة ترشيح السيدة فوزية علية لخطة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب بداية من 1 ديسمبر 2016 وهي من جملة القضاة الاربعة المعينين بصفتهم في تركيبة المجلس الاعلى للقضاء ومجلس القضاء العدلي.

اما من جانب الشغورات الحاصلة في الخطط الاخرى، فقد تولت الهيئة الوقتية النظر في ثلاث خطط قضائية سامية بنفس المجلس (وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب -رئيس المحكمة العقارية- الرئيس الاول لمحكمة الاستئناف بتونس).

وقد بررت الهيئة ممارسة صلاحياتها -اضافة الى تطبيق ما يقتضيه القانون- برغبتها في استكمال تركيبة المجلس الاعلى للقضاء وهو ما تحقق بموجب تسديد الشغورات في الخطط القضائية المرتبطة بعمل المجلس.

وفي هذا الصدد اكدت الهيئة الوقتية بمناسبة اعلانها عن الترشيحات للوظائف القضائية العليا ان اقتراحاتها جاءت “التزاما بدورها في ضمان استمرارية المرفق العام للعدالة وحسن سيره، وتحملا لمسؤولياتها في المساهمة في إرساء المؤسسات الدستورية الدائمة بما يضمن حيادها واستقلاليتها ويكفل اضطلاع المجلس الأعلى للقضاء بدوره في ضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاله” (بيان 19 نوفمبر 2016).

واضافة لذلك استندت الهيئة في هذا الباب الى ما يقتضيه الدستور (الفصل 148 فقرة 8) والقانون الاساسي المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء (الفصل 74) والقانون الاساسي المحدث للهيئة (الفصل 14) فضلا عن “أن القول بان قرارات الترشيح الصادرة عن الهيئة لم تعد من صلاحياتها وتندرج في مشمولات اختصاص المجلس الاعلى للقضاء لا يقوم على أي اساس من الصحة ضرورة ان استكمال تركيبة المجلس الاعلى للقضاء لم تحصل بعد وهو ما يجعل تخويله هذه الصلاحية سابقا لأوانه”.

ومن الطبيعي ان نستنتج ان هذه الازمة الجديدة للمجلس الاعلى للقضاء ترتبط بصراع خفي على استقلالية او تبعية القضاء. فرغم ان المجلس -الذي ولد بامراضه الخلقية- لا يحقق مقومات “السلطة” لقضاء “ضعيف” فقد بدا -سواء في طور صياغة القانون المنظم لذلك المجلس او بعد اقراره- ان الاختراقات سوف تاتيه من كل جانب.

لكن لم نكن نعتقد ان ارساء المجلس -الذي تاخر الى حد الان عن موعده الدستوري لمدة تجازوت 22 شهرا- يمكن ان يتعثر مرة اخرى وان تاتيه محاولات الاختراق قبل ان يبدا اولى جلساته.

ويتضح -على الاقل من مظاهر الازمة الحالية- ان مسؤولية الحكومة على تاخير ارساء المجلس في اجله المعقول تبقى قائمة طالما اتضح ان رفض المصادقة على قرارات الترشيح للخطط القضائية (بعد التقدم بالمبادرة التشريعية) هو السبب الرئيسي في عدم التام المجلس.

ولا يبدو -باي وجه- ان الهيئة الوقتية للقضاء العدلي قد اخلت بواجباتها او تخلت عن صلاحياتها او تجاوزت سلطاتها في تسديد الشغورات او اقتراح التعيينات خصوصا وقد استندت في ذلك الى احكام الدستور والقانون وحرصت على ابلاغ تلك الاقتراحات في حينها الى رئاسة الحكومة ثم الى رئاسة الجمهورية.

ولاشك ان الدفع في هذا الاتجاه سيسيء -لا فقط الى السلطة التي تتهم “بالتلاعب بالوظائف القضائية”- بل الى تجربة “البناء الديمقراطي” ويفتح الباب واسعا لازمة دستورية ستؤثر على الوضع القضائي وعلى نزاهة المؤسسات المرتبطة بالمجلس الاعلى للقضاء.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock