مقالات

ملفّ التسفير: خطوة أخرى في مسارات التيه السياسي

محمد المولدي الداودي

كلّما أدركت الأحزاب السياسيّة إفلاسها وعجزها عن معالجة القضايا التي تتّصل بحياة المواطنين اليوميّة وتعبّر عن مطالبهم الحقيقيّة شرعت هذه الأحزاب في فتح الهوامش بعيدا عن الأعماق ومن هوامش السياسة في تونس هذه الأيّام الحديث عن ملفّ التسفير.

– الحديث عن مسألة التسفير في هذا الوقت بالذات استدعاء لنفس المناخ السياسي الذي استفادت منه أحزاب كثيرة مناهضة للمكوّنات الحزبيّة التي شكّلت تجربة الترويكا منذ 2012 وبدا جليّا أنّ تلك الأحزاب التي جنّدت الإعلام ومؤسسات الدولة في اعتصام باردو وفي كلّ تحركّات التعطيل والتّفشيل التي مارستها الإدارة مع منطّمات شغليّة ومهنيّة وأسقطت بها تجربة حكم رائدة في تاريخ تونس والعالم العربي المسكون بأشباح الاستبداد والفساد.. تلك الأحزاب لم تكن تحمل مشروعا سياسيّا حقيقيّا ولا تحمل رؤية اقتصاديّة واجتماعيّة وإنّما كان حضورها السياسي مشروطا بمناخ الترهيب والتخويف من خصم سياسي (النهضة ومشتقات المؤتمر) ولذلك حمّلت هذه الاحزاب الفاقدة لكلّ رؤية مرحلة الترويكا كلّ مظاهر الفشل الحاليّة وأغفلت بذلك ضرورة البحث عن بدائل موضوعيّة وحلول واقعيّة تشخّص في عمق أسباب فشل الدولة الوطنيّة الحديثة منذ الاستقلال إلى حدود الثورة في بناء نموذج وطني ثقافي واجتماعي وتربوي واقتصادي وسياسي يضمن الحريّة والكرامة والعدالة والديمقراطيّة.

– مسألة التسفير تتجاوز الأزمة السوريّة من حيث تاريخيّة هذه الظاهرة أو من حيث التشكّلات الدعائيّة لها فمشاركة التونسيين في مناطق التوتّر والحروب تعود إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي فقد شارك تونسيون في معارك الحربين العالميّتين كما شارك تونسيّون في معارك المقاومة الفلسطينيّة أو الجزائريّة أو الليبيّة وشارك آخرون في معارك أفغانستان وشارك تونسيون جنّدهم نظام القذّافي في معارك التشاد كما شارك تونسيّون في معارك البوسنة والهرسك ثمّ العراق وهي بذلك ظاهرة وطنيّة تتناسب مع الواقع الدولي والإقليمي ومقاماته وسياقاته ولا تمثّل استثناء تونسيّا (معارك التحرير الوطني في بدايات القرن العشرين إلى حدود منتصفه ومعارك الجماعات الثوريّة اليساريّة أو القوميّة في الشرق ومعارك الجماعات الجهاديّة في أفغانستان والعراق..) والحديث عن ضرورة محاكمة المتورّطين في ملفّ التسفير إلى سوريا يمرّ حتما بمحاكمة المتورّطين في التسفير إلى مناطق التوتر منذ نظام بورقيبة إلى حدود 2017.

– المسألة السوريّة مسألة معقدّة من حيث المنطلقات والتحوّلات والمسارات والمآلات فمنطلقاتها ثوريّة فقد كانت استجابة شعبيّة لروح الثورات العربيّة التي انطلقت بذرتها الأولى في تونس والتشكيك في المنطلقات الثوريّة للأحداث في سوريا يساوي بالضّرورة التشكيك في كلّ الثورة التونسيّة بداية ومنجزا ولذلك فإنّ الاختلاف في توصيف الأحداث في سوريا يحمل رؤية إيديولوجيّة تستند أساسا على المواقف المتناقضة بين فرقاء السياسة في تونس من النّظام السوري ولقد دفع النّظام السوري المتهاوي في 2012 إلى تحويل الثورة إلى مطحنة للصراع الدولي عبر تدويل الصّراع فكان استدعاء إيران وحزب الله طرفا مناصرا للنظام ومعبّرا عن روح طائفيّة لوّثت نقاء الثورة السوريّة كما تمّ استدعاء المقاتلين للنظام والمناصرين للثورة الشعبيّة السوريّة ولم يكن هذا الاستحضار رسميّا (لم تدع دولة من الدول الدّاعمة للثورة السوريّة جيشها ومواطنيها إلى الانخراط المباشر في الصّراع السوري مثلما فعلت إيران أو منظّمة حزب الله أو مثلما حصل في اليمن من خلال التدخّل المباشر لدول الجوار الخليجي). لقد كانت التعبئة غير نظاميّة واتخذت شكل التفاعل الوجداني الممزوج بأبعاد دعائيّة مذهبية وهذا ما تجلّى في مقاطع الفيديو التي تنشر على الانترنيت أو في خطب بعض الأئمّة المحسوبين على التيّارات السلفيّة (ما يحدث للسنّة من طرف الشيعة..). وهذا ما يفسّر التناقضات والإنكفاءات التي رسمت تعرّجات مسار الثورة السوريّة واختلاف المواقف الدوليّة منها وتباين حجم التورّط العالمي فيها (التدخّل الروسي المباشر من أجل حماية النظام والتدخّل المصري تجنيدا وتسليحا..).

وفي ظلّ هذا الاختلاف الحادّ بين فرقاء السياسة في تونس ظلّت المسألة السوريّة محلّ تجاذب كبير بين الخصوم وهو تجاذب يعكس استقطابا عالميا ومسألة التسفير لم تكن أبدا مسألة نظاميّة في البعدين (مع النّظام أو ضدّه) وإنّما كانت مسألة “شعبيّة” متّصلة بحجم الاختلاف السياسي والإيديولوجي فالذين سافروا إلى سوريا لقتال النّظام وجدوا غطاء فقهيّا ووجدوا دعما شعبيّا من المتعاطفين مع الثورة السوريّة وكذلك الذين سافروا إلى سوريا للقتال إلى جانب النّظام الذين وجدوا غطاء حزبيّا من الأحزاب القوميّة ووجدوا تمويلا في إطار رؤية سياسيّة لها امتدادات اقليميّة (إيران ومصر وحزب الله). ترى في ما يحدث في سوريا مؤامرة كونيّة على آخر قلاع الممانعة العربيّة ولذلك تلاشت عناصر الاختلاف العميق والتاريخي بين إيران وحزب الله من ناحية والتيارات القوميّة من ناحية أخرى وتشكّل تحالف موضوعي تغاضى فيه الكل عن معالم العداء التاريخي بين القوميين العرب وإيران.

– استقطب الصّراع في سوريا مقاتلين من كلّ العالم وقد يحدث أن يسافر من نفس البلد من يقاتل مع النّظام ومن يقاتله وبذلك يبدو البحث في ملفّ التسفير بحثا محمولا على الصرّاع السياسي والمحمّل بنوايا حشر خصوم السياسة في زوايا الاتهام والاستهداف.

– يبدو ملفّ التسفير في تونس وغيرها من البلدان يعبّر عن فضاء استخباراتي أشمل من المسألة السورية ويهدف إلى تخريب الثورات فالذين أشرفوا على تجنيد الشباب والدفع به الى ميادين المعارك في مناطق التوترّ في ليبيا والعراق وسوريا لهم تجارب سابقة في الحرب في أفغانستان والعراق زمن نظام بورقيبة وابن علي ومن المعلوم عند الدوائر الاستخباراتية العالمية حجم التواطئ بين نظام بشّار والجماعات الجهاديّة المقاتلة للقوّات الأمريكيّة في العراق قبل موجة الثورات العربيّة ومن المعلوم أنّ سيف الله بن حسين المكنّى بأبي عياض وزعيم تيّار أنصار الشريعة كان ممن قاتل في أفغانستان وسافر للقتال في العراق كما يظلّ ملف المدعو أبي بكر الحكيم ملفّا غامضا وكذلك ملف أحمد الرويسي العقل المخطّط لكل العمليات الإرهابيّة في تونس والذي رفضت حكومة مهدي جمعة تسلّمه بعد القبض عليه في ليبيا ومن المعلوم أنّ أحمد الرويسي تربّى في دوائر المخابرات السوريّة وله علاقات برموز من النّظام السابق ويبدو أنّه كان عنصر اختراق للجماعات السلفيّة زمن نظام ابن علي..

ملفّ التسفير في تونس هو الشجرة التي تخفي غابة الأسرار التي أحكمت دوائر المخابرات العالمية نسجها وأتقنت صناعتها لتخريب الثورات وتهميش إرادة الشعوب وتحويل مسارات الانتقال الحضاري الكبير الذي بدأ مع الثورة التونسيّة إلى ركام من الخوف والجوع والقتل وحتما سيسعى الباحثون في ملفّ التسفير إلى توجيهه وجهة يرتضونها والإبقاء عليه غامضا وبيتا مخفيّا في غابة السياسة تسكنه الأسرار والأشرار يخيف به أهل السّياسة وصنّاعها البسطاء من النّاس.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock