تدوينات تونسية

أموال “الذمم” وتدمير “القيم”

بحري العرفاوي

“الثورة” ومعارك “الكلاب”

استعمال المال في استمالة الذمم أو تحريك الهمم هو أسلوب قديم عرفته مختلف المجتمعات كواحد من أهم أدوات الصراع سواء في صراعاتها ومنافساتها الداخلية أو في صراعاتها الخارجية.

والخلاف فقط هو في أهداف مستعملي تلك الأموال، فثمة من يستعملها لشراء الذمم واختراق الخصوم وتدمير ثقافات الشعوب وإيذاء الآخرين، وثمة من يستعملها في خدمة أهداف نبيلة إما في “التجنيد” وإما في “التحييد”، تجنيد المناضلين أصحاب القضايا المشروعة وتحييد من لا عداوة لهم ولا اصطفاف ولكنهم ذوو مهارات يمكن استمالتها من قِبل الأعداء واستعمالها ضد أصحاب القضايا النبيلة.

ويمكننا التأمل في القرآن لنجد ذكر الحالتين:

ـ ذكر القرآن الكريم أعداء المشروع المحمدي الثوري ضد الاستبداد والاستعباد حين أنفقوا من مالهم الكثير في حملتهم الإعلامية لتضليل الناس وتشويه الرسالة وصاحبها وتحريض البسطاء على أصحاب الرسالة الجديدة مع تأكيده على حتمية خسارتهم المعركة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} الأنفال 36.

كما ذكر القرآن الكريم أنصار الحق والعدالة والحرية إذ يُنفقون من مالهم من أجل قضيتهم العادلة ويعدهم بالثواب والنصر: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} التوبة 20.

معارك المال هي المعارك التي لا تتوقف أبدا ولا يمكن أن تتخلى عنها الأنظمة الحاكمة خاصة الاستبدادية منها أو الاستعمارية حين تستعملها إما لشراء الذمم وإما لاختراق المجتمعات والتنظيمات والأجهزة والأحزاب.

في مجتمعاتنا العربية اعتمدت الأنظمة الاستبدادية على كثير من المثقفين والإعلاميين والموظفين في تحسين الصورة وتحصيل المعلومة وتشويه الخصوم وتبرير المظالم والمفاسد.

في تونس وبعد هروب بن علي ظن أغلب التونسيين أن الناس تحرروا من الخوف ومما يترتب عنه من كتمان الحقيقة ومجاراة الباطل وبيع الذمم، ظنوا أن الإعلاميين والمثقفين وكل أصحاب الرأي قد فُتحت أمامهم أبوابُ التعبير عن مشاغل الناس وحقوقهم وأشواقهم، غير أن الواقع كان مناقضا تماما لتوقعات التونسيين فـ”الثورة” لم تحرر الضمائر ولم تستنهض الإنسان الكامن في الكائنات البشرية ولم تنتصر فيها الإرادة على الغريزة ولا الوعي على الشهوة.

لقد تفجرت الغرائزية المحمومة كما لم يحدث من قبل وأضحت “الثورة” في نظر الغرائزيين مغنما لا يجوز التفريط فيه وفرصة للكسب بكل الطرائق مستفيدين من هشاشة الوضع وضعف الحكومات وسهولة اختراق مؤسسات الدولة ومنابرها.

لم يكن من الصعب اختراق أصحاب المشاريع التدميرية لبيئة ملوثة مهترئة غير محصنة بالوعي والقيم.

ظهور أسماء غريبة عن التونسيين في الإعلام -كمنشطين أو كرجال أعمال أو كسياسيين أو كفنانين- كان دافعا للدهشة والغرابة والتساؤل: من أين جاء هؤلاء؟ ولماذا جاؤوا ؟ ومن أتى بهم؟ بل إن السؤال الأكبر هو: من أين يستمدون شجاعتهم فيتطاولون على القانون ويهزأون من المسؤولين الكبار في الدولة ويحتقرون المناضلات والمناضلين والشهداء ويُجاهرون بالتفاهة والسخف وبكل أشكال الرداءة بل ويُشيعون الفاحشة والفساد والانحطاط؟

لا أظن أن أصحاب مال من التونسيين هم الذين يُنفقون تلك الأموال الطائلة في هذا “العبث” الوبائي بأمن البلاد ومستقبلها… أعتقد أن أصحاب المال الحقيقيين هم أصحاب المشاريع التدميرية الأصليين الذين يريدون تخريب النسيج المجتمعي التونسي في كل أبعاده الثقافية والقيَمية والأمنية والإقتصادية… إنهم يعاقبون التونسيين الذين عبروا عبر تاريخهم أنهم من أذكى الشعوب العربية والإسلامية وإنهم على درجة عالية من الوعي والتمدن وأنهم الشعب الذي أبدى أكبر قدْر من الإنتصارية لقضية العرب والمسلمين العادلة: “فلسطين”.

أعتقد أن “الكلاب” التي أشار إليها صاحبها إنما هي في الحقيقة “جِراءٌ” تتحكم بها “كلابٌ” شرسة مُدرّبة هي على علاقة مباشرة بالدوائر المالية الكبرى وأن تلك الكلاب إنما تستعمل تلك “الجراء” وترمي إليها بعض الفتات.

إن من أوكد مهام “الثورة” هو الكشف عن “الهويات الكلبية” الحقيقية وتحمل مسؤولية مواجهتها بالقانون وبمنطق “ثورة” مازال دمُ شهدائها لم يتشربه التراب.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock