مقالات

ملاحظات سريعة عن الدولة الوطنيّة والإستقلال التاريخي التام

زهير إسماعيل
ثلاثة مصطلحات أساسيّة في الحديث عن الاستقلال :
الدولة الوطنيّة:
وترتبط في مسارنا التاريخي الخاص بتهشيم آخر
هويّة انتظام سياسي في 1924. ويمثّل هذا الحادث أهمّ نتيجة سياسية استراتيجيّة للحرب العالميّة الأولى. ومن خلالها تمّ تجزئة مجالنا السياسي التاريخي إلى “دول وطنيّة” فاقدة لشروط الاستقلال الحقيقيّة.
والدولة الوطنيّة كانت من جهة حقيقتها السياسيّة “دولة غلبة” ومن جهة حقيقتها الاقتصاديّة “دولة غنائميّة” ومن جهة حقيقتها الثقافيّة “دولة تابعة”. وفي مجمل تجربتها لم تنجح في تحويل القبيلة إلى حزب والغنيمة إلى اقتصاد والعقيدة إلى رأي بعبارة صاحب مشروع “نقد العقل العربي”.
الاستقلال التاريخي التام:
مصطلح مركزي في فكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، يرتبط بأهميّة المكوّن الثقافي لما يمثّله من رؤية تنعكس على مجمل التجربة السياسيّة الاجتماعيّة والحياة الاقتصاديّة. ورغم ما تمثّله معطيات الثقافة الكونيّة من مشترك بين مختلف التجارب، فإنّ وعي هذا الكوني والتفاعل مع هذا المشترك يمرّ عبر التراث الخاص لكل هويّة سياسيّة ولسانيّة وثقافيّة. وهو ما يقيم الفرق واضحا بين الاستقلال والتبعيّة. فالاستقلال لا يعني الانعزال والعيش وراء جدر عازلة من اللغة والثقافة بقدرما يعني استيعاب الكوني من خلال التراث اللساني والثقافي الخاص. وإذا سحبنا هذا المفهوم على الحركة الوطنيّة في بلادنا، سنجد أنّ عنصر الاستقلال كان غائبا. ويمكن أن نتبيّن عنصر الاستقلال في المسار الذي عرفته مقاومة المستعمر في بلادنا. فلئن كانت انطلاقة هذه المقاومة في صيغتها الأولى القبليّة من خارج ثقافة المستعمر (صراع منوالين في الانتظام السياسي أفقي وعمودي: فكر الدولة/فكر مضاد للدولة)، فإن هذا المسار تطوّر مع الحركة الوطنيّة إلى مقاومة من داخل ثقافة المستعمر (تبنّي فكر الدولة: تشكيل الأحزاب، مطلب البرلمان التونسي…الخ).
وكان لهذا التحوّل من مقاومة الاستعمار من خارج ثقافته إلى مقاومة من داخلها أثر على طبيعة الحركة الوطنيّة وعلى النخبة التي قادت تجربة بدولة الاستقلال مع بروتوكول 1956، وعلى طبيعة هذه التجربة ومآلاتها.
شروط النهضة:
يمكن القول إنّ هذه العبارة كثّفت كلّ ما كتبه المفكّر مالك بن نبيّ. وله كتاب بهذا العنوان. وعبارة النهضة بقدر ما كانت نتيجة للانتباه لما كان يدور في ضفة المتوسّط الشماليّة فإنّها مثّلت اكتشافا لما عليه الذات من تخلّف. فكان سؤال النهضة: لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم غيرهم. وهذا السؤال منظورا إليه من زاوية الاستقلال يمثّل أخطر الأسئلة، لأنّه بقياس تخلّف الذات على تقدّم الغير انبثق مفهوم الاقتباس بما يعنيه من محاولة التوفيق بين لحظتين تختلفان في كلّ شيء.
وممّا ضاعف من الارتباك أمام نهضة أروبا الفائضة على حدودها “فعل الترجمة”. ولا يُتوقّف كثيرا عند هذا العنصر رغم أهميّته، ذلك أنّ مراجعة دقيقة لأهم ما تُرجم يكتشف أنّ هذه الترجمة لم تكن “ثقافيّة” ولم تكن ترجمة موفّقة حيث احتفت في قسم كبير منها بالعابر دون المستمر وبالخصوصي دون الكوني وبالميّت دون الحيّ.
وأمّا في الجانب السياسي العملي فإنّ ما اعتمد ليس طريقة حلّ المشاكل للاستفادة المنهجيّة وإنّما الحلول في حدّ ذاتها وهو ما جعل جانبا من تجربة الدولة الوطنيّة تقليدا ساذجا لتجارب الغير دون مجهود يذكر للتبيئة ونقلا غبيّا لحلول تجاربه عوض الاستفادة من طريقة ابتداع الحلول.
ومن خلال طبيعة الترجمة ومن خلال الجانب السياسي العملي نكتشف غياب شروط الاستقلال الحقيقي وبناء السيادة.
مثّلت ثورة الحريّة والكرامة المنطلقة من تونس طرحا جديدا للسؤال النهضوي، ولحقيقة الاستقلال. ونبّهت إلى أنّ شرطين أساسيّن: هويّة المشروع النهضوي المواطنيّة الاجتماعيّة ومجاله المتخطّي لحدود الدولة الوطنيّة باستعادة هويّة انتظام سياسي جديدة مداها المجال العربي. لذلك كانت هذه الثورة في عمقها حركة مواطنيّة اجتماعيّة تجري إلى غاية هي بناء المجال العربي قوّة سياسيّة واقتصاديّة ولسانيّة تتوفّر على شروط الاستقلال التاريخي التام وتساهم في إعادة بناء العلاقات الدولية للخروج من “إدارة التوحّش”. وهي مرحلة انطلقت مع الحربين العالميتين الأخيرتين وعرفت مداها مع احتلال بغداد وتدمير العراق. وما نعيشه اليوم هو مآل من مآلات هذه المرحلة المتوتّرة بين مزيد من “التوحّش” وإمكانيّة الانفتاح على مقدّمات لـ”إدارة التعارف”.
الحقيقة السياسية بما فيها فكرة الاستقلال لا توجد في بلادنا وإن بدت بلادنا اليوم منطلقها الوحيد… مع ثورة الحريّة والكرامة انطلق الشوط الثاني من حرب الاستقلال في جمع بين مهمتي التحرير والتنوير، وهو ما يجعل منها معركة إنسانيّة طويلة وشاقة..

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock