تدوينات تونسية

أين يفرّ المرء حين تضيق به الأوطان ؟

محمد المولدي الداودي

الكتابة على جسد النسيان
في رثاء طفلة من الجبّاس أقدمت على الانتحار:
هنا “الجبّاس” “هنا ولدت.. هنا دفنت..” كانت صغيرة بما يكفي للحلم ولكنّها كانت مثقلة بأوجاع الحياة وقسوتها.. بلغت من العمر ثمانية عشر فقد حدّثها البعض أنّه ربيع العمر وما أدركت ربيعها فقد بلغت من الوجع ما دفعها إلى الانتحار..

في قرية “الجبّاس” ولدت في عائلة فقيرة ككلّ البسطاء هناك ونشأت كما نشأ الزهر يصارع نبات الصبّار وأشواكه ويخشى أقدام الظّالمين أن تدوسه… ألزمها فقر العائلة قتل أحلامها الصّغيرة وودّعت المدرسة كما ودّعت صديقاتها ومضت في سبيل الحياة الشّاقّة.. تطلب الرّاحة فيطلبها الشّقاء… عملت على صغر سنّها في حقول الزّياتين لعلّها تكفي كفافا وتعين عائلة على قسوة الزّمن.. نما الجسد في غير ميقاته وغيض ماء الطفولة في غير أزمانه ودفعت إلى السّفر إلى ولاية صفاقس أين اشتغلت معينة منزليّة… في مدينة الغرباء.. افترق الجسد والرّوح وصار البعد أبعادا.

عادت إلى القرية تحمل أسرارها شهرا قبل الحادثة.. وحدّث البعض من أهلها أنّها طلبت من أمّها ثمن رداء.. قليلا من المال.. قليلا من الحياة… وكثيرا ما يقتل عوز الحاجة.

في ليلة الجمعة 10 مارس 2017 كانت خبرا يتناقله النّاس في المستشفى المحلّي بسيبة… سألوا عن اسمها وعن سبب إقدامها على الانتحار… تعجّب الزّائرون.. ثمّ ساروا إلى أيّامهم…

الجسد المسجّى في غرفة المستشفى يتطلّع إليه الفضوليون من الزوّار يكتب فصلا أخيرا من فصول المعاناة في بلد اليباب والغياب… صفحة أخرى تطوى في قرية كلّ تاريخها كتاب من النسيان..

في الجبّاس ولدت وبعد رحلة الثماني عشرة من السنين.. تدفن في نفس القرية… بعيدا عن وحشة الأحياء وقسوة الأوطان… ما تزال العائلة تحكي سيرة الغياب… أطفالها جميعا انقطعوا عن الدرّاسة.. ولعلّ صفحة أخرى تطوى في تاريخ السّراب… زوّار الجنازات المرفّهة لم يسألوا عنها ولم يسألوا عن العائلة وأحوالها… المسؤولون الكبار أصحاب النظّارات السوداء والملابس الفاخرة لم يسألوا عنها ولا سألوا عن العائلة.. فقط سجلّ الأموات في مدينتي يستقبل في وجع رقما تائها من أرقام الوفيّات..

الجبّاس قرية من قرى عمادة الثّماد من معتمديّة سبيبة، قرية مخفيّة في دفاتر النسيان وهي لفظ من أصيل معاجم التهميش في لغة الأوطان.. مكانها من المدينة يقع في هامش الهامش وكذلك حالها.

زرتها بعيد الثورة سنة 2011 وكأنّي أزور مكانا أسقطته أقاصيص الخرافات وحكاياها في قطعة من الأرض منسيّة.. قرية أغفلها الزمّان وكذلك أهلها.

في قرية “الجبّاس” يتوقف الزمن طويلا وتمّحي الذاكرة الشعبيّة التي تؤرّخ للدولة الوطنيّة.. لا علامة للوطن غير أهل القرية المحبّين للبلد وأطفالها الذين يردّدون أناشيد إرادة الحياة في كلّ صباح..

نبت أهلها في سفح جبل مغيلة وفي سهله كما ينبت الزّهر بين الصّخر والصّخر. ونحتوا بيوتهم من حجارة الأرض القاسية وكذلك عيشهم..

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock