مقالات

الثقب الأسود

عبد اللطيف علوي
في ذلك اليوم، عاد إلى البيت بعد منتصف اللّيل، بعد أن سهر مع لزرڨ، والخطوي، وبودفّه، في المقبرة. شربوا حتّى صاروا يرون السّماء تحت أرجلهم، والأرض فوق رؤوسهم. لم تكن المقبرة بعيدة عن الحيّ، لكنّ النّهج المحاذي لها، كان في اللّيل يُحرّم على البوليس، وسيّارات الأجرة، وعلى المارّة من غير أبناء اللّيل، وقطّاع الطّرق!
كانت في اللّيل تدبّ فيها حياة أخرى! عالم ينتصب بين القبور، يلفّه الظّلام، أبطاله السّردوك، وحفّه، والرّيبوسكي، وولد الڨمرة، والخطوي، والحزڨي، وديوة، وشلاّط، وحربوشة، وكلّوط وزوجها لزهر الماص، وآخرون…
سوق ليليّ كاتم، تُقضى فيه حوائج فئة أخرى من النّاس، كائنات ليليّة زاحفة أو عاوية أو متسلّقة. كائنات سقطت من سلّة المجتمع ذات الثّقوب الكثيرة، ثقوب كانت في البداية ضيّقة، ثمّ راحت تتّسع يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، إلى أن صارت لا تحتفظ إلاّ بالرّؤوس الكبيرة وتوابعها.
الجميع يعرفون من يقصدون، حفّه والخطوي، تجد عندهما كلّ المسكرات بجميع أنواعها، من “الكول” و”السبيريتو” إلى المستورد ” المذخم” الّذي يصل إليهما بمعرفة أعوان “متعاونين” من البوليس. الحزڨي وديوة، جرابهما لا يخلو من كلّ أنواع المخدّرات، من الزّطلة والحشيش إلى الهيروين والكوكايين، لكلّ نصيب، والنّاس درجات. صعاليك اللّيل والمتشرّدون يعمرون المقبرة في اللّيل، ويملؤونها بالحياة والأغاني والضّحكات المسروقة، حتّى صيّادو بنات اللّيل، يحدث أن يجدوا لهم مخدعا بين القبرين، يمارسون فيه الجنس والحياة، في حضرة الموت، وتحت رعايته الكاملة…
#الثقب_الأسود_عبد_اللطيف_علوي ص 22

__________
لم أكن أنا، خالد الشّرفيّ، أهتمّ بالسّياسة، ولم أكن أفهم منها قليلا، ولا كثيرا. كلّ ما صرت أعرفه تعلّمته على يدي عامر الصّالحي في مدّة الإيقاف، وعلّمتني إيّاه ليالي التّعذيب الطّويلة، وأنا أصرخ وأتلوّى تحت هراوات البوليس، أعوي مثل جراء الكلاب والقطط العمياء، في شعاب الجبال.
كنت أحيانا، في طريق العودة من المدرسة، أمرّ بـ” شِعْبة الطِّيرْ”، أضع محفظتي على الحافّة، وأنزل إلى القاع، حيث الأحراش والصّخور الملوّنة، وشجيرات الحرمل والدّفلى… أتتبّع مسار الماء الهزيل وهو يتحسّس طريقه، مثل أفعى ربيعيّة ناعمة، إلى عين “سوادة” و”الصوالح” و”زهوة”. أحيانا أجلس على صخرة ناتئة، في منحدر مخفيّ عن الأعين، وأمكث هناك ساعات، بلا حراك أو صفير، مثل فراخ الحجل الّتي تلتصق بالأرض المحروثة، وتكمن لساعات، مثل حجر نائم، أو طوبة يابسة، إلى أن يمرّ الصّيّاد وتأمن عودته…
كنت في فصل الرّبيع أتغيّب عن القسم أحيانا، حين تأخذ الأرض في استعادة الخضرة، وتتفتّح الشّمس في الصّباح مثل زهرة العبّاد، وتسري في كلّ شيء روح الله من جديد… كنت أمسك الحجر وأمسحه بكفّي وأضعه على خدّي فأتحسّس برودته الرّخوة ونعومته، أقرّبه إلى أذني وأصغي، فأسمع في أعماقه حسيس الحياة. روحه تخفق، وفقاقيع الماء والنّدى تترقرق داخله، كالمضغة الّتي تتشكّل في أرحام بيضة صغيرة دافئة.
ذات مرّة سمعت مواء شاحبا متقطّعا، تتبّعت أثره، ووجدت بين الصّخور ثلاثة جراء صغيرة، قططا مغمضة الأعين، تنتفض أجسادها الهزيلة من الجوع والبرد، تتحسّس المكان بأرجلها الطّريّة، تسقط وتنهض… تفتح أفواهها الحمراء وتموء دون توقّف، ذلك المواء الشّاحب المخنوق. مددت يدي إلى أحدها، فاستشاط مواؤه من جديد، وتصاعد صراخ أخويه، بصوت يائس كأنّه استغاثة الرّمق الأخير، وتشبّث بأصبعي، يريد أن يلحسه ويرضعه…
حملت القطط الثّلاثة، وضعت اثنين منها في جيبيْ معطفي، والثّالث في المحفظة، وعدت، وفي قلبي يخفق ذلك الإحساس الّذي لم يفارقني بعدها أبدا،
#الثقب_الأسود_عبد_اللطيف_علوي ص 49

__________
لست إسلاميّا، كما يرون أنفسهم، ولا “خوانجيّا” كما يراهم العالم… أنا رجل ضئيل وهامشيّ وبلا يقين… أعيش حياتي بلا أسئلة ولا تفاصيل ولا شهود، أعدّل دماغي كلّ يوم على إيقاع الحياة اليوميّة، وأكره المفاجآت في كلّ شيء…
لم أشعر يوما أنّني أحيا أو أشقى من أجل الفوز بالجنّة، أو النّجاة من النّار. كانت جنّة الأرض البسيطة المستعصية، هي غاية ما يشغلني، والنّار الوحيدة الّتي أعرفها وأسعى إلى اتّقائها، هي نار الفقر وجحيمه الّذي نتوارثه جيلا بعد جيل. لم أشعر يوما أنّه عليّ أن أري النّاس طريقا غير الّذي تعوّدوا أن يسلكوه ويتحمّلوا أشواكه. ومن أنا، كي أدّعي أنّني أعرف ما ينفع النّاس، في الأرض أو في السّماء. في هذه الحياة، ليس الأهمّ دائما أن تختار، أحيانا يكون الأهمّ أن تتأقلم وتتعوّد. لست مواظبا على الحدّ الأدنى من الصّلوات حتّى في البيت، ولم أعمر المساجد إلاّ عابرا بعض أيّام الجمعة! ولم أكن أبدا ممّن يشعرون في قرارتهم بأيّ نوع من الانبهار، أو التّقدير الخاصّ، لمن يسرفون في النّوافل أو في صيام التّطوّع…
كان قلبي أحيانا يمتلئ بإيمان صوفيّ، كثيف كغيوم ديسمبر الرّجراجة في سماء ضيّقة، كإيمان عجائز قريتنا الزّاهدات والواقفين على أعتاب الموت، فأقبل على الصّلاة كما يقبل الظّميء على الماء، وأحيانا يزوغ قلبي، وينغلق، فلا ينفذ إليه شعاع من السّماء، وتعمى كلّ حواسّي إلاّ عن مشاغلي اليوميّة المتكرّرة… أترك الصّلاة لأيّام، وأحيانا لشهور.
تقبّلت الحياة كما قدّمت لي نفسها، ولم أحاول أن أبحث تحت طيّاتها، أو خلف أبوابها عن معنى آخر، وهدف آخر يعيش من أجله الإنسان… تصدّقت، وصلّيت، وشربت الخمر من باب الاستئناس بالجماعة الضّالّة، خاصّة في أعراس قريتنا الّتي يغتنمها الشّباب ليحتفلوا برجولتهم على الطّريقة الجاهليّة، وصمت، وأحببت، وكرهت، وكذبت أحيانا، ذلك الكذب القصير الحبل، الّذي لا يعكّر نهر الحياة كثيرا، وفعلت أشياء كثيرة، لست فخورا بها، ولا تصلح أن تكون في سجلّ حسن السّيرة فعلت كلّ شيء إلاّ أن أزنى، أو أمدّ أصابعي في مغاوير السّياسة المعتمة…
أنا لست عامر الصّالحي، ولا العربي سيدهم، ليس لي صبر الأوّل، وإيمانه، ويقينه، ولا سطوة الثّاني وحقده وجبروته، فلماذا، سقطت، وعلقت بينهما في هذه الحرب الّتي شبّت فجأة في قريتنا، كعاصفة من النّار في زرع حصيد؟
#الثقب_الأسود_عبد_اللطيف_علوي ص 52

__________
مرّ على إيداعنا بسجن الكاف ثلاثة وأربعون يوما… كنت أحرص على أن أحسبها يوما بيوم، لكيلا أتحوّل إلى حجر…
بدأت أتعوّد على نوع من الهدوء القاتل، ذلك الهدوء الّذي يشبه حالة من التّخدير الطّويل، يفقد معه الإنسان إنسانيّته وتضمر أعضاؤه بالتّدريج وترتخي، ويتحوّل إلى مثل تلك الكائنات الرّخوة، الّتي تصنّع في المختبرات السّرّية لأبحاث الخيال العلميّ، شبحا مسيخا من لحم ودم، بلا إرادة وبلا غريزة أو خيال…
كانت الأيّام الأولى شبيهة بحالة الفطام الوحشيّ الدّمويّ، فطام تقتلع فيه الأمعاء والرّوح والذّاكرة. أنزلونا من “الباڨة” وأوقفونا في صفّ طويل لساعات، وراح الأعوان يمرّون علينا، ويتداولون على صفعنا وركلنا والبصاق على وجوهنا ولكزنا بالهراوات ودفعنا حتّى نسقط على وجوهنا وسبّ فروج أمّهاتنا العاهرات جميعا في نظر أعوان الدّولة…
للسّجن، كما للحجّ، شعائره وأركانه، ومن أركانه الحلقُ… دفعوا بنا إلى حلاّق غشيم، من المساجين، في حفرة ضيّقة، بيده مقصّ ضخم أشبه ما يكون بالجلم، أو لعلّه جلم ظننته مقصّا، وموسى طويلة يشحذها من حين لآخر على حجر صقيل… راح يجوس في رأسي ككلب أعور، وبين قصفة وقصفة يعضّ الجلد ويدميه، أتأوه فيصفعني على قفاي وينهرني لكي أخرس… طلب سجائر، فأعطيته، ورأيته يتلطّف بي قليلا … كلّ على قدر سجائره يعرف قدره عند الحلاّق. ثمّ مرّ على وجهي بموساه فتركه كعصف مأكول. نظرت إلى من سبقني إلى الحلق، فأدركت أنّه فصل آخر من فصول التّنكيل والتّعذيب.
#الثقب_الأسود_عبد_اللطيف_علوي ص 77

__________
في اللّيل، تهجع الحركة باكرا داخل العنبر، “الشّمبري” بلغة السّجن. ولا تنطفئ الأضواء. عليك أن تعتاد ضوء النّهار دائما في عينيك، وعتمة اللّيل في قلبك. يتردّد الشّخير هنا وهناك مثل الغرغرة عند الموت، وتضيق الأنفاس بأحدهم، يثقل صدره حتّى يشهق شهقة تخال صدره قد انخلع لها، ويخالها شهقة النّجاة. ينتفض في الفراش ويصرخ وهو يمسك برقبته ويتلفّت مرتعبا في كلّ اتّجاه، بعينين جاحظتين متوسّلتين، والعرق يتفصّد من جبينه…
لن يهبّ إليه أحد ليهدّئ من روعه. فقد تعوّد الجميع على هذا المشهد اليوميّ، وصار أمرا عاديّا مثل السّعال أو الشّخير. لكنّ ذلك لا يمنع أن يأخذ نصيبه في كلّ مرّة، وابلا من اللّعنات والشّتائم النّابية، قبل أن يتنبّه للمرّة الألف أنّه نفس الكابوس الّذي يتكرّر كلّما أغمض عينيه ونام.
لسعد ڨدّيش، أحد مساجين الحقّ العام المحكومين بالإعدام… شابّ قويّ بملامح قاسية. يقضي النّهار بلطجيّا عربيدا داخل “الشّمبري”، يضرب هذا ويسبّ ذاك، ويسخّر البعض لتسليته ويفتكّ “شمولة” الضّعفاء… والشّمولة هي التّسمية السّجنيّة لقفّة الزّيارة، الّتي يحظى بها السّجين مرّة في الأسبوع، إذا كان لديه من يزوره.

حين ينام يتحوّل إلى فأر مذعور، يختلج كالمذبوح. انتظار الموت أشدّ فظاعة من الموت في حدّ ذاته.
سألته مرّة عن قضيّته، فأجاب بكلّ استخفاف: “رويحة”… ظننت أنّه دخل السّجن من أجل امرأة اسمها “رويحة”. لكنّه تبيّن لي بعد ذلك أنّها تصغير لكلمة “روح”، أي نفس بشريّة… قتل زوجة أخيه في بيتها بعد أن اغتصبها، فشّخ رأسها بساطور لأنّها تفطّنت إليه وهو يسرق مركز البريد وهدّدته بأن تفضح أمره… المثير في الحكاية أنّه حدّثني بإسهاب كيف أنّ التّلفاز كان مفتوحا في بيتها، يعرض فيلما مسلّيا لعادل إمام، وكيف أنّه أكمل مشاهدة الفيلم في بيتها، وقزقز ما تركته على الطّاولة من بذور عبّاد الشّمس المقليّة، ثمّ غادر كما لو أنّ شيئا لم يحدث!

لا شيء في حياة المساجين أكثر حضورا وسطوة وجبروتا من المرأة، أمّا أو حبيبة. حضور غريب في كلّ تفاصيل المأساة، فحيثما فتّشت، تجدها، ضحيّة أو جانية، وقودا للكراهية أو للحبّ، تجدها ملحا في الجرح، أو مرهما خفيفا يلمّ أطرافه ويسكّن أوجاعه… تشمّ عطرها في أغانيهم، وفي حكاياتهم، في أحلامهم وفي كوابيسهم… المرأة هي من تجعلهم ينهارون ويسقطون مثل أبراج عالية من الرّمال، أو يصمدون كالجبال الّتي لا تهزّها الرّيح، هي من تدفعهم إلى المقاومة والحلم، وهي من تهوي بهم إلى القاع وتلفّ حبال اليأس حول رقابهم. لا شيء في يوميّات المساجين أكثر فقدا وغيابا أو حضورا وتأثيرا من المرأة… ذلك الطّائر الأسطوريّ المهيب، الّذي يلفّ الجميع بجناحيه، وينقر عيونهم وأكبادهم، فيبكون أو يغنّون أو يصرخون أو يرقصون…
#الثقب_الأسود_عبد_اللطيف_علوي ص 79

__________
حدّثتني “داده” عن يوم مولدي… أخبرتني أنّه كان يوما جنائزيّا حزينا، اختلط فيه صراخ النّسوة وعويلهنّ بنباح الكلاب وفحيح الرّياح وصفعات الأمطار الباردة…
يومها سقط “الدّاموس” على ثلاثة من رجال القرية، وكان من ضمنهم خالي “الهادي”، جاء الخبر مساء، ففزعت كلّ العائلة إلى الـ”المينه”، وبقيت أمّي في البيت الّذي شاءت الأقدار أن يعيش لغز الموت والحياة في اليوم نفسه…
انتحبت زوجته حتّى احمرّت السّماء، وغرزت أظافرها في خدّيها، نزعت الجلد وتدفّق الدّم أسود حاميا، ثمّ ركضت إلى الغدير، وراحت تغرف من قاعه الطّين الموحل وتصبّه على رأسها ووجهها، والنّاس يمسكون بيديها ويحاولون أن يمنعوها ويسحبوها دون جدوى…
كان منجم الرّصاص هبة الاستعمار الفرنسيّ الملغومة لسكّان قريتنا والقرى المجاورة… يسمّونه ” المينهْ”، وكان وحشا حجريّا قاتلا…
كان غير المالكين للأراضي يبحثون عن رزقهم في أحشائه… ينزلون إلى الدّاموس، ويتوغّلون إلى مئات الأمتار تحت الجبل بلا أدنى حماية … يصهدهم الحرّ ويخنقهم نقص الأوكسيجين وتثقلهم الرّطوبة، لمدّة ثماني ساعات في اليوم، وكلّ يوم … حين يخرجون يتبادلون التّهاني بعودتهم إلى الحياة، ويعودون إلى منازلهم وهم يقسمون أنّهم لن ينزلوا إلى الدّاموس ثانية… وفي صباح اليوم الموالي، تمتلئ بهم طرقات العودة، ثمّ يحنون ظهورهم وينزلقون إلى بطنه الملعون من جديد…

كانت القرية تستيقظ من حين لآخر على خبر فاجع جديد: “فلان طاح عليه الدّاموس…”
عاشت قريتي بين عالمين مختلفين: عالم المزارعين فوق الأرض، وعالم العمّال الزّاحفين كالقوارض تحت الأرض، يغمسون اللّقمة بالدّم والعرق والدّموع…
ظلّ يوم مولدي قرينا لتلك الفاجعة الكبيرة الّتي بقي السّكّان يعيدون روايتها لأسابيع وشهور، وقال بعضهم إنّه نذير لما سوف يأتي من القحط والخراب…
في تلك اللّيلة المثلجة، لفّتني القابلة في بقايا أسمال كثيرة، ووضعتني في ركن من البيت وقالت: “اتركوه حتّى الصّباح… إذا مات، فسوف يأخذ الشّرّ معه، وإذا عاش، فسوف يعمّر طويلا… أكثر من تسعين سنة… وسوف يصبح ذا شأن كبير”
#الثقب_الأسود_عبد_اللطيف_علوي ص 163

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock