مقالات

الوزير ناجي جلّول وكيمياء السياسة في تونس

محمد المولدي الداودي

هل ترحل الحكومة برحيل الوزير
لم يكن ناجي جلول مجرّد وزير للتربية في حكومة الحبيب الصيد وحكومة يوسف الشّاهد ولم يكن ذلك الخطاب الواثق في تصريحاته الإعلاميّة مجرّد أسلوب اتّصالي ميّز الرّجل وأربكه في نفس الوقت وإنّما كان تعبيرا عن قراءة لتعقيدات المشهد السياسي التونسي بعد انتخابات 2014. هو مشهد محكوم بتناسبات كيميائيّة أدرك ناجي جلّول قيمتها السياسيّة. فهو العنصر الذي يضمن مرونة التوافق بين العناصر المتنافرة ويمثّل كذلك وضمن البنية الاستعاريّة تلك “المنارة” التي تجمع حبّات العقد وتمنع انفراطه وتفكّكه.

ناجي جلّول ذو الخلفيّة اليساريّة يجسّد لقاء انتخابيّا بين اليساريين والنقابيين والمكوّن الدستوري في حزب حركة نداء تونس ورغم ذلك التباعد بين المكوّنات المشكّلة لحركة نداء تونس بعد الانتخابات بسبب الاختلاف الأساسي في الرؤى والتصوّرات والمضامين الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي أخفتها ضرورات التحالف زمن حكم الترويكا.. رغم هذا التّباعد الذي جسّده انشقاق اليساري محسن مرزوق ظلّ ناجي جلّول في خطابه الإعلامي وفي سلوكه السياسي وفيّا لصاحب “الباتيندة” غير منكر لفضله. ولذلك فإنّ وجوده السياسي مرتهن إلى حدّ بعيد بهذا الشكل من الحضور بعيدا عن كبرياء الشخصيّات اليساريّة التي انشقّت عن النّداء.

وزارة التربية وزارة “مضمونيّة” وهي إحدي منصّات الجدال المجتمعي وإحدي تشكيلات الصّراع بين مختلف المكوّنات السياسيّة في تونس وهي بذلك الميدان الذي يؤكّد من خلاله العلمانيون والحداثيون تعبيرات النمط المجتمعي بعيدا عن مخاوف التغيير و”التحريف” للنموذج التونسي وهو ذات الخطاب الذي استثمره النّداء في صراعه مع حركة النهضة قبل انتخابات 2014. وضمن هذه الرؤية مثّل ناجي جلّول التصوّر اليساري المستلهم من “مدرسة الإصلاح التربوي” للشرفي كما مثّل التصوّر الدستوري في خطابه الدّائم عن بورقيبة المصلح والمجدّد وفي هذا الجانب اثار مخاوف تيّار الهويّة الذي تمثّله حركة النهضة باعتبارها مكوّنا من مكوّنات الائتلاف الحكومي (حكومة الوحدة الوطنيّة) ولقد أدرك ناجي جلّول هذه الهواجس والمخاوف فسارع إلى تسمية أحد مستشاريه من المقرّبين من حركة النهضة وأبدى استعداده لتوسعة مجالات الحوار الوطني من أجل إصلاح المنطومة التربويّة متجاوزا الحدود المرسومة نقابيّا أي الثلاثي المكوّن للحوار الوطني كالاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان ووزارة التربية. وهذه المنافذ التي تسرّبت منها حركة النهضة ظلّت مسيّجة بأطر معلومة لا يمكن تجاوزها كإطار “الحداثة” و”العلمانيّة” و”العقلانيّة” وغيرها من العبارات ذات المضامين التي تساوي في مستوى المناهج والبرامج مفارقة للرؤية الإسلاميّة المعبّرة عن الرّغبة في تأصيل الناشئة في الهويّة العربيّة الإسلاميّة.

وبالإضافة للقيمة المضمونيّة لوزارة التربية فإنّها الوزارة الوحيدة التي تتّصل بحياة كل الأسر التونسيّة وهذا ما يكسبها بعدا شعبيّا له قيمة انتخابيّة وهذا ما أدركه ناجي جلّول فعمل على تأكيد الخطاب “الشعبوي” كخطاب “مصلحة التلميذ” ومساعدة “أبنائنا..”. ولذلك فإنّ تمسّك حزب حركة نداء تونس بهذا الوزير ينبني على إدراكه لهذه القيمة “الانتخابيّة” لناجي الجلّول باعتباره هو الواجهة الحزبيّة المعبّرة عن ملمح نجاح “إعلامي” وشعبي جسّدته عمليّات سبر الآراء.

في ظلّ مشهد سياسي متحرّك وغير ثابت من حيث التحالفات ومن حيث الانشقاقات الحزبيّة تظلّ حركة النهضة الحزب التونسي الأكثر تماسكا والأقدر تنظيميا والأكبر من حيث الكتلة البرلمانيّة الحاليّة ولكنّها مع ذلك تظلّ الحزب التونسي الأكثر استهدافا من كلّ التيّارات والمكوّنات الحزبيّة الأخرى وتظلّ علاقتها بالنّداء علاقة تحالف مرحلي غير مبدئي أملته ضرورة النتائج الانتخابيّة وكلا الحزبين يدركان الحاجة التشارطيّة للتحالف بينهما وهي علاقة تفترض وجودهما معا رغم التّنافر والتّناقض أحيانا.. حركة النّداء تدرك حاجتها لحركة النهضة من أجل الحكم وحركة النهضة تدرك حاجتها لحركة النداء من أجل حفظ الحدّ الأدنى من مكتسبات الثورة (التعدّديّة.. حريّة التعبير..) ومن هذا المنطلق تبدو علاقة حركة النهضة بالوزير ناجي جلّول إشكاليّة فأغلب أنصار الحركة يرفضون بقاءه على رأس الوزارة ويطالبون بإقالته أمّا قادة الحركة ونوّابها فيرفضون إقالته ويبدو تمسّكهم ببقائه أشدّ من حزب حركة النّداء.

يخشى قادة حركة النهضة تفكّك الائتلاف الحكومي أو ما تبقّى منه بإقالة الوزير ناجي جلّول وتدرك منزلته في تشكيل اللوحة الحكوميّة ومحوريّته في بناء تحالفاتها رغم تناقضاتها وهو في الحكومة بمثابة “المنارة” من العقد وبهذا التصوّر تشتدّ الفرقة بين أنصار الحركة ومؤيّديها وقادتها ونوّابها.

لايزال بعض من حركة النّهضة غير مطمئن للعمل النّقابي ولعلّ تمترس الكثير من الفعاليّات السياسيّة وراء قوّة زمن حكم الترويكا لمواجهة حركة النّهضة هو الذّي رسّخ هذا الموقف وهذا ما يحقّق عند البعض من قادة الحركة هواجس التوظيف السياسي للتحرّكات النقابيّة المطالبة بإيجاد بدائل على رأس وزارة التربية بعيدا عن ناجي جلّول وخياراته.

وتزداد هواجس الحركة ومخاوفها من تخمينات ما بعد حكومة يوسف الشّاهد وفرضيّات ما بعد سقوط الحكومة هي التي ألزمت الحركة موقفا محايدا لا يكاد يظهر في ظلّ غليان يعيشه قطاع التعليم في تونس وحتما تدرك الحركة الثمن السياسي لمثل هذه المواقف.

ناجي جلّول بالنسبة لحركة النهضة هو سؤال ما بعد سقوط الحكومة وتهاوي الائتلاف الحكومي وإقالته “حسب رؤيتها” بوّابة المجهول وعتبات الغموض المخيف ومدخل مغارة الخوف وكهف الظّلمات.

ويدرك المتابع للشأن السياسي التونسي أنّ حركة النهضة خيّرت شكلا من السّلوك السياسي مداره أنّ امتصاص الوجع خير من الصّرخة وأنّ قتل الأفعى في جحرها خير من إخراجها وشعارها في المرحلة “إذا أردت قتل خصمك فدع جارك يفعل ذلك”.

أرجو أن تدرك حركة النّهضة أنّ القضايا الوطنيّة فوق الحسابات السياسيّة وأنّ السياسة كما تقرّها المرجعيّة الإسلاميّة رعاية مصالح النّاس وإحقاق الحقوق.

أستاذ تعليم ثانوي
نقابي
تونس

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock