تدوينات تونسية

هناك على الحدود.. قرب السّاتر الترابي

محمد الناصر رابحي

ضرب لي موعدا بإحدى مقاهي تونس حيث إنتحينا جانبا كنت أترشف un demi à lent jet بينما هو طلب قهوة اكسبريس بطعم العلقم اخذ رشفة قوية اشفعها بنفس كبير من سيجارته وقال “أنا على أبواب الزواج قريبا إن شاء الله، إن كان لي عمر…”.

– لماذا تقول هذا الكلام ؟.. أنت ماتزال شابّا والمستقبل أمامك…

إبتسامة خفيفة واستطرد قائلا “قد يبدو لك الأمر غريبا، لكنّي أعتبر كلّ يوم هديّة من الله..”.

– كيف ذلك ؟..

– أنا جندي مناوب على الحراسة في السّاتر الترابي بين تونس وليبيا.. وموقعي في العمل ساخن بعض الشيء.. بين المهرّبين والجماعات المتناحرة في ليبيا والدواعش الذين يحاولون التسلل إلى تونس أو إلى القطر الليبي..

– أعتقد أن الأجواء هادئة هذه الفترة وليس هناك تماسّ أو ما يدعو للقلق ؟..

إبتسامة أخرى خفيفة وذات معان كثيرة “نعم.. هو ما تعتقدونه ونصرّ على أن تشعروا جميعا بذلك.. نعمل جاهدين أن تشعروا بأكبر قدر من الأمان.. لكن الحقيقة تكتشفها هناك، في الميدان.. حين تقف وتراقب.. وتستمع لأزيز الرصاص بين فترة وأخرى.. أو تكون مستلق بجانب السيّارة العسكريّة لتأخذ قسطا من الرّاحة، وأنت متربّص أو تنتظر صوت رصاصة يستقرّ في جسدك في أيّ لحظة..”.

– هذا توتّر كثير.. أعتقد أنكم تعيشون تحت الضغط المستمرّ..

– نعم.. هذه هي طبيعة عملي، كل يوم أرتديّ الزيّ العسكري واقول هل سأخلعه بنفسي ؟… (ضحكة) يبدو الأمر جنونيّا اليس كذلك ؟..

– أعتقد ذلك حقّا.. هل تحظون بمتابعة طبية ونفسيّة ؟..

ضحكة طويلة “ماذا تقول يا رجل ؟.. لن أحدّثك على نوعيّة طعامنا وظروف حياتنا.. فهي كفيلة بالردّ على تساؤلك الحالم هذا…”.

– إذا أنتم تعانون ؟..

– ليست المعانات الجسديّة ما ترهقنا… نحن قادرون على التحمّل أكثر من هذا بكثير، وسأخبرك المزيد.. نحن جاهزون للإنقضاض على أي قوّة تحاول النيل من تونس مهما بلغت درجتها.. لا تظنّ أنّي أقول كلاما أجوفا… إنما هي الحقيقة.. كلّ زملائي قادرون على القتال الطويل ضدّ كل من تسول له نفسه الإساءة لتونس وأبنائها.. لكننا في وضع يرهقنا نفسيا…

– أفهمك… لا حرب لا سلم..

– تقريبا… هو المعنى الأقرب.. لسنا نقاتل ولسنا في حالة سلام.. وهذا متعب حقّا.. والعدو غادر.. و…

– أكمل.. لِمَ تصمت ؟..

– لولا دعم من القرآن كنت سأمرض حقّا من هذه الوضعيّة..

– كيف ؟..

– نحن نلجأ للقرآن وحفظه لنحافظ على أعصابنا.. هو الشيء الوحيد الذي يمنحنا الطمأنينة والسكينة.. حتّى أنّي في أحيان كثيرة أنسى فكرة رصاصة غادرة تمزّقني.. فيصبح الأمر بالنسبة لي غاية في القداسة..

– لأنّكم على حقّ..

– نعم.. نحن على حقّ.. حين أقف على ذلك السّاتر واراقب بمنظاري أشعر بكلّ الشعب خلف ظهري.. مطمئنّا أنّي هنا… مسؤوليّة ثقيلة.. فلم أعد أخشى على نفسي.. لكنّي أخشى على من هم وراء ظهري..

– هذا كلام جميل مفعم بالشجاعة..

– الشجاعة ؟.. هي نحن.. نملك منها ما لو وزّع على شعوب الدنيا لكفتهم..

– كيف هي وضعيّاتكم المادّيّة ؟..

– الحمد لله.. أحصل على جراية موظف بسيط.. لكن لا مشكلة.. أستطيع تفّهم ذلك..

– إذا ليس لديك مطالب لزيادة أجرك ؟..

صمت قليلا وقال “لا أقدر أن أقول شيئا.. أخجل من مثل هذه الطلبات.. لن أطالب بثمن لحياتي.. تكفني أن تشعر تونس بالأمان..”.

– فماذا تريد أن تقول لشعب تونس ؟..

رفع هامته ونظر نحو اللّا متناهي “سندافع عن تونس بضراوة لا يمكن أن تهزم… نحن جاهزون دائما.. ولن نسمح لأي شرّ أن يقترب منكم”.

لم أقدر على شكره بالكلمات… صافحته وهو يودعني.. وينصرف ليتجهّز للذهاب نحو عمله.. هناك على الحدود.. قرب السّاتر الترابي.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock