مقالات

فنجان قهوة مع فتى مشاغب

عبد الحميد الجلاصي

لم أقابله من قبل، ولكني أزعم انني اعرفه جيدا. فأنا أراقب الساحة، وأصنف الفاعلين، واحرص على تسجيل البصمات المميزة، اكثر من حرصي على تسجيل القواسم المشتركة. وهو كان احد الأبناء المشاغبين لليسار التونسي. هذا اليسار الذي يمثل حالة أوسع من التنظيم، بل أوسع من التيار.

لم يقابلني من قبل، ولكنه قال انه يعرفني، رجل العتمة، القادم من “الخلف”، مع ما يثيره “الخلف” من فضول ومخاوف.
تواعدنا على المقابلة وسط العاصمة.

غالب وقتي أقضيه في الضواحي، وعندما اسرق شيئا من الوقت للتسكع في شارع الثورة، احس انني انتقلت إلى عالم آخر. أتذكر صبي “بوحبيب “عندما يذهب إلى “البلاد”، والمقصود هنا “منزل تميم”.
لم أفوت الفرصة لزيارة بعض المكتبات. اشعر بالحسرة. هم يجدون الوقت للكتابة، ونحن لا نجد فسحة للقراءة.
أطوف بين الكتب، وأدندن: “ما أحلى الرجوع اليه”، كما قالت الأخرى.

نلتقي في احد المقاهي.
كل شيء يجمعنا.
يدخن بنهم، وامقت التدخين.
يستهلك القهوة بدل الماء، ولا أميل كثيرا للقهوة.
نحن أبناء نفس الجيل.
صيغ المجاملة تأخذ منا ثلاث دقائق. فقط.
مباشرة يطرح السؤال: كيف ترى الأوضاع ؟
يعجبني هذا النوع من التبادل.
أمام شخص أقابله أقدر أن أحدد، منذ الدقائق الأولى، مآل العلاقة. وغالبا ما يصدق حدسي. أحب العلاقات المباشرة، وأكره اللف والدوران.
هذا الذي أمامي سيكون صديقا. لا بأس سأقنعه يوما أن يقلع عن التدخين.
في كلمات مكثفة عبرت عن اهم خلاصاتي. عن اعتزازي بالمنجز السياسي، وعن خوفي عليه. عن أم المشاكل التي تعاني منها البلاد وهي مشكلة القيادة، عن تفهمي لغضب الناس وإحساسهم بالغموض والإحباط جراء تواضع المنجز التنموي، واستشراء الفساد. لم اكن لطيفا في التعبير عن خيبة أملي من كسل الطبقة السياسية المناضلة وخاصة من يسار ضيع بوصلته وغرق في الأيديولوجي على حساب الاجتماعي، واستعمل رافعة لعودة النظام القديم. ومن استمرار لجوء كل الطبقة السياسية إلى اللغة الخشبية التي لم يعد يسمعها احد.
تحدثت أيضا عن مخاضات النهضة، حزب المرتبة الأولى في قسم متوسط.
صديقي كان اكثر حدية في نقد اليسار، وهو احد أبنائه، ولكنه كان ناقدا أيضا للنهضة والترويكا، ويرى أن عليها أن تكون صريحة أكثر بخصوص مسؤوليتها في ملفي الإرهاب وعودة المنظومة القديمة.
موقفه اقرب للإحباط بخصوص مستقبل التجربة، واهم مخاوفه أن تتشكل ديموقراطية شكلية تتستر على أفظع أشكال التفاوت الاجتماعي، وابشع أنواع الفساد.
ذكر لي الاحتجاجات الشعبية التي تحصل في رومانيا هذه الأيام على نية الحكومة التغاضي على الإخلالات المالية اقل من أربعين الف اورو. وهكذا يمكن أن تشرعن الديموقراطيات الهشة الفساد !!!
كنت أكثر تفاؤلا منه. إذ طرحت سؤال العمل.
كنا متفقين على أن ثورة وقعت، وهي التي تمثل مرجعيتنا.
وكنا متفقين على أن الدولة الديمقراطية الاجتماعية هي التي تجمعنا، ومن مقتضيات ديمقراطيتها الحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد.
وكنا متفقين على إمكانية الاتفاق على برنامج يجسد معاني الدولة الديمقراطية الاجتماعية الرشيدة.
شخصيا أنا مقتنع أن حركتي -النهضة- يجب عليها أن تعدل بوصلتها قليلا باتجاه اليسار، بمعنى العدالة الاجتماعية، وبمعنى القوى السياسية والاجتماعية.
في رايي المبادئ تقتضي ذلك، والتوازن السياسي في البلاد يقتضي ذلك، والوفاء لقاعدتنا الانتخابية، من الطبقة المتوسطة فما دونها، يقتضي ذلك.
وكنا متفقين أن من مستلزمات تحقيق هذا الأمل أن تنظر الأحزاب لأيديولوجياتها، في السياسة، كمنظومة قيم. وفي القيم يمكن أن نجد التقاءات واسعة، مع احتفاظ كل طرف بالإسناد الأيديولوجي الخاص به.
وكنا متفقين أن النقد الذاتي ضرورة للأحزاب، وهو مطلوب من جميعها، وانه مسار يبني الثقة.
أكدت لصديقي أن جهدا جبارا يجب أن يبذل لتذويب الجليد، وإزالة سوء التفاهم في الساحتين السياسية والاجتماعية، وهو ما يستلزم صبرا وبيداغوجيا مناسبة.
وعسى أن أكون على ذمة هذا الجهد.
حينما يتقابل تونسيان على فنجان قهوة لا يتكلف ذلك اكثر من ثمن تذكرة مقابلة رديئة في كرة القدم.
بالتأكيد لا يحل ذلك مشاكل العالم، ولكنه قد لبنة لتذويب الجليد وإزالة سوء الفهم.
ودائما ما تتفطن أن وراء اختلافاتنا الظاهرية توحدنا أشواق جوهرنا الإنساني.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock