تدوينات تونسية

مسعود الدعداع سيد توزيع الصحافة الذي رحل

كمال الشارني
عرفت الراحل مسعود الدعداع موزع الصحف في العاصمة وضواحيها هو في أوج سلطته، عام 1991، حين عجزت دولة بن علي عن كسر الشبكة الليلية التي أحكم بناءها لاحتكار توزيع الصحف في أكبر فضاء بيع أي العاصمة وضواحيها.
حين ترى المرحوم مسعود الدعداع أول مرة، يستحيل عليك أن تتوقع سلطاته الواسعة في الصحف، أو أنه جامعي هارب من دراسة الطب بسبب قصة ليس هذا مجالها، أو عمق ثقافته السياسية والحياتية، ولا حتى نفوذه المالي الواسع، فقد كان رحمه الله قادرا على إنقاذ أي جريدة يريد إنقاذها، ليس بالتوزيع والمبيعات، وإنما أيضا بقدرته على توفير المال السائل حين ترفضه البنوك.
مرة، كنا ننتظر أجورنا بمناسبة عيد أضحى أو فطر، حين غاب عنا صاحب المؤسسة، أغلبنا، صحفيين وموظفين، كنا نازحين إلى العاصمة علينا أن نعود إلى أهالينا وكثير منا، ينفق على أهله،
ضاقت بنا الدنيا بما رحبت واسود العالم، حتى جاء مسعود رحمه الله وسمع قصتنا، قال دون تركيز “ما تمشوش هاني جاي”، ولأنه لم يكن لنا مكان نذهب إليه، ولم يكن لأحد منا حساب بنكي يقترض منه، فقد بقينا ننتظره، بعد نصف ساعة عاد على متن دراجته النارية الزرقاء موبيلات، يضع بين ساقيه سلة سوداء مجعدة “ساشي”. جلس في قاعة التحرير وأخذ ورقة بيفتاك (فضلات ورق طباعة الصحف التي نكتب عليها مقالاتنا) وجعل يكتب أسماءنا وأمام كل منها المبلغ التي تسلمه كل واحد منا: أكثر من عشرين ألف دينار في لحظات (كانت ثروة مثل 100 ألف دينار اليوم)، إنما كان يعول في الحقيقة على ذاكرته الشفوية والبصرية التي لا تخونه أبدا.

قليلون يعرفون أن مسعود الدعداع قاوم وزارة الداخلية نفسها في زمن بن علي، حين أرادوا تكسير الامبراطورية التي أقامها بأعصابه وأمواله وأهله وأصدقائه، إنما لا يمكن فهم قوة هذه الامبراطورية الحقيقية إلا عند الحضور معه ومع رجاله منتصف الليل في الشتاءات القاسية وتحت الزوابع والأمطار متضاربة الاتجاه وهم يتلقون رزم الصحف ويعيدون توزيعها بجهود غير إنسانية على عشرات الموزعين وآلاف صغار الباعة في نظام محكم، لا يتعطل أبدا، أيضا، لا بد من رؤية مسعود الدعداع، وهو ينجح في إقناع الكثير من أصحاب الصحف وقتها بتغيير محتوى الصفحة الأولى، لأنه من أكثر الناس معرفة باتجاهات النجاح الصحفي، ثم يشكرونه على ذلك، مسعود له أفضال كثيرة ليس فقط على أصحاب صحف، وإنما على صحفيين معروفين، كان له من الثقافة ونفاذ البصيرة والسلطة أيضا، لكني يفتح أمامهم الطريق.
أنا أدركته وهو في سنوات مجده، وبقينا صديقين، كان يحيرني، رحمه الله بعبارته الشهيرة “كاماراد، لا تهتم، ستصبح يوما زعيما، أو سوف تجن”، لم أفهم إلى اليوم نبوءته الطريفة لأني لم أجن بعد وليست لي أية رغبة في أن أصبح زعيما، لذلك أترحم عليه، ولا أستغرب إنكار الكثيرين لفضله عليهم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock