تدوينات عربية

كنا عايشين

أسامة الحاج حسن

حبيبنا المقدّم غسّان قفل راجعا من دورة في “التوجيه السياسي” وحاله كحال طاووس الحديقة العامّة اجتمع بنا في قاعة الاجتماعات وحاول أن يزيدنا من بعض علومه السياسيّة الفذّة التي اكتسبها قال سيادة المقدّم بعد سرده لعظمة المحاضرين الذين نهل عنهم علوم “البولوتيكا”: “رفاق في قادة عظماء لما بيتولوا سدّة الحكم أبتتذكر مين كان قبلن، واسترسل ليثبت نظريته: لأنهم قادة جماهيريين بيحجبوا اللي كان قبلهم مثلا القائد الخالد حافظ الأسد أكيد ما حدا منكن بيعرف مين كان قبله ومثله جاك شيراك” وقّف يا أسامة تشوف مين كان قبل القائد الخالد ؟ أجبته: سيدي كان قبله أحمد الخطيب وقبله نور الدين الأتاسي وقبله أمين الحافظ وقبله لؤي الأتاسي وقبله ناظم القدسي وجاك شيراك كان قبله فرانسوا ميتران وقبله جيسكار ديستان وقبله بومبيدو وقبله ديغول… أجاب وقد تقطّر عرقا: “اقعد يا زلمة ما أكرهك!” وأنتم “مخاطبا باقي المجتمعين”: “من الصف انصرف”.

مقاومة وممانعة في يوم مشمس من آذار عام 2001، وفي يوم إداري في كتيبة الدفاع الجوي في ريف درعا كان المقدم جهاد يحتسي الشوربة بسرعة رهيبة بانتظار البطاطا المقلية والدجاج المسلوق.. يقطع عليه صفو المشهد اتصال من الراصد البصري: سيدي سيدي هدف للعدو “الإسرائيلي” باتجاه 270، هنا وقع سيادة المقدم حائراً بين هدفين هدف الراصد البصري وهدف البطاطا والفروج وبفطرته الوطنية اختار الهدف الثاني ورد على الهاتف “صديق ولا ابني”.

حبيبنا المقدّم غسّان كان في قاعة المحاضرات يعطي درساً لمادّة تسمّى “سطع وجيوش أجنبيّة” وراح يهوّل من قدرة العدو الصهيونيّ الإسطوريّة واسترسل قائلاً “وقد لبس الدور” رفاق إسرائيل بتعرف عنا كلّ شي بتعرف شو ما نعمل هنّا “نحن”، ودون سابق إنذار قاطعه المجنّد خالد قائلاً : “سيدي يعني إسرائيل بتعرف أنّك عم تاخدنا الحليب” ملاحظة: المقدّم غسّان لديه محل صغير في مساكن الضبّاط يبيع فيه المصادرات.

مشهد طوابير المواطنين على الأفران مشهد معتاد لكن في فرن الرازي كان المشهد مختلفا ذلك أن الكل كان مجمعا على جودة الخبز لكن الطامة كانت عندما يتعكّر مزاج الوزّان فيغلق كوّة المبيع.. كان الجميع يرفع أكف التضرع بانتظار أن يفتحها الباشا ثانية.

في الثمانينيات رفعت الأسد أصدر أمراً بالبحث عن المدعو ابن تيمية والقبض عليه!! في الـ 2011 أصدر ضبّاط المخابرات أمراً بملاحقة المدعو Facebook “فيس بوك” والقبض عليه حيّاً أو ميتاً..

بعد إخماد الثورة الأولى التي تسمّى في سوريا “الأحداث” لم تعد ترى رجلاً ملتحيّا ً أذكر عندما كنت في الصف السابع لا أذكر ملتحيّاً إلّا بائع الدخّان المهرّب في العبّارة وعبد القادر كردغلي وباسل الأسد.

الانتصار الوحيد الذي حققه الجيش السوري كان في مباريات كرة القدم في الدوري السوري.. الحكّام عسكريون؛ حتّى جمهوره على المدرجات كان يستأجره بعلبة متّة..

حرية حرية كرامة كرامة لم تكن تسمعها في سوريا الأسد إلا على مدرّجات كرة القدم حين يلعب فريقا الكرامة الحمصي والحرية الحلبي.

في كل دول العالم مباراة كرة القدم مدتها تسعون دقيقة إلا في سوريا الأسد فمباراة فريق جبلة كانت متعددة الأوقات: عندما يكون جبلة فائزاً ولو بهدف تكون المباراة خمسين دقيقة فعلية وأربعين دقيقة أخرى مباراة بين المدافعين “حاج عبيد” و”قناديل” والحارس “الشكوحي” يمسك الشكوحي الكرة فيلعبها لأحد المدافعين ليعيدها الأخير ثانية له فيمسكها من جديد مع “شقلبتين اثنتين” وصفقات من جمهور جبلة وهكذا حتى ينهي الحكم اللقاء.. أمّا إن كان جبلة خاسرا فمن الممكن أن تمتدّ المباراة لصلاة المغرب حتى يطلق “شيخ الجبل” صافرة النهاية من على مقاعد الاحتياط راضياً بهدف التعادل بعد أن يعيق المدافعان الشهيران حارس الفريق الخصم ليعلن عن ضربة جزاء يسددها النجم المخيف “أحمد شلبي” بعد أن يأمر الحارس بالانبطاح على جهة مغايرة..

في سوريّا الأسد لو أردت أن تشرب قهوة الصباح عليك أن تتذكّر أمرين اثنين: الأوّل أنّ القهوة والغاز وحتّى علبة الدخان تقتضي منك الوقوف على طوابير لأنّ القهوة لا تباع إلّا بمحالّ مرخّصة وكذا الغاز ومثلهما الدخان.. الثاني أنّ الرخص لم تكن تمنح إلّا للمقرّبين من عناصر المخابرات أو أصحاب النفوذ أو لأقرباء كبار الموظّفين في سوريا الأسد حفلة الطهور كانت تحتاج لرخصة أمنيّة…

ينتصر الطاغية على شعبه عندما يستطيع أن يجعل أحلامَ الناس أحلامَ العصافير، فيكون الواحد منهم: أقصى همه ربطة الخبز، وأقصى فخره فوزٌ بمباراة، وأقصى طموحه أن يعيش ليرقص بعرس ابنه، وأقصى إنجازاته أن يستطيع إكمال الحياة وهو يسير “الحيط الحيط ويقول يا رب السترة”!

كنّا في الاجتماع الصباحي في يوم إداري وكان حبيبنا المقدّم غسّان أقدم رتبة “يعني هو من يرأس الاجتماع” وكان المجنّد خالد في حياته المدنية جزّاراً، خالد طويل القامة عريض المنكبين وشارباه مفتولان وهو في عمر العشرين والملفت أنه من قرية مجاورة للمقدم غسان ما أزال بعض الحواجز بين ضابط ومجنّد مسكين.. المهم في الاجتماع الصباحي بدأ المقدم غسان يحدثنا عن بطولاته العسكرية التي تعلمها من دورة تدريبة في روسيا “استغرقت تسعين يوماً” يكون الحديث عن الرياضة فيقول لك في الاتحاد السوفييتي كان البطل يأخذوه من مشفى التوليد ويشرعوا بتجهيزه، الحديث عن القمح يحدّثك عن الريّ الحديث الذي عاينه في الاتحاد السوفييتي ومن هالخرط… وأثناء تحية العلم قام خالد بعرقلة أحد المجندين فأصدر صوتا لحظة وقوعه مع تأوّه تزامن مع جملة “إلى العلم” فوقف سيادة المقدم وسأل من الجاني؟ فأشير إلى خالد فطرده من تحية العلم وأردف قائلا: “رفاق بكن تسألوني ليش كديتوا لهالفدان” في الاتحاد السوفييتي كانوا إذا بدن يعاقبوا عسكري يمنعوه من تحية العلم… المهم أنهينا تحية العلم ثم اصطففنا طوابيراً من أجل درس الرياضة نركض “ونحن مفحمين” وخالد يجلس في “كرافانة الإشارة” يشرب المتة ويلوح لنا بيده… كنا عايشين.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock