تدوينات تونسية

الفكر الأسود

منجي باكير

إنّما تنهض المجتمعات والشّعوب بما لديها من فكر، فكلّما تواجد لدى هذه المجتمعات مفكّرون أكفّاء، كلّما كانت في حال أفضل لفهم الحياة ومدلولات كلّ الدوائر المرتبطة بها وبالتالي تتمكّن من توظيف نتاج هذا الفكر -الفاعل- في خلق التطور وفكّ شفرات سننه لدفع الضرر واستجلاب المصلحة والنّفع.

الفكر يمكن أن يكون فكرا إيجابيّا -أبيض- فكرٌ يحمل على عاتقه مباشرةَ قضايا الإنسان والبحث في مشكلات الحياة لديه وتفسير الإبهامات الحاصلة عند الفرد والمجتمع التي من شأنها أن تؤخّر نواميس التطوّر وتعرقل حسن استغلال المؤهلات وتحجب طُرق استثمار الطاقات الكامنة والمتفجّرة ذاتيّا…

لكنّ هذا الفكر يمكن أن يتأتّى أيضا في شكل فاسد مفسد، فكر -أسود- تماما ومقايسةً مع -السّحر الأسود- فهو فكر ينحى طريق الطلاسم والهرطقات والشذوذات والشّعوذات وكل ما شأنه أن يفسد العقل ويغيّبه، بل يختطف مقدّراته إلى متاهات تؤجّج من استفحال وانتشار الأمراض السّلوكيّة الإجتماعيّة واللّوثات الفكرية الجسديّة وبالتالي فإنّها تصرف المجتمعات المستهدفة بهذا الفكر الأسود إلى إشاعة الفساد واستجلاب التهلكة وتصيبه في مقتل بتقبيح الجميل وتجميل القبيح وخصوصا استباحة معين الفطرة الإنسانيّة فتختلّ عندها موازين الحقّ والعدل والفضيلة ومفاهيم الخير والشرّ وباقي الجماليات التي هي في الأصل المؤطر الحقيقي لضوابط الأعراف الإجتماعيّة الضّامنة للصّلاح والدّافعة لحب البقاء وما يتطلّبه من تقدير قويم للذّات الإنسانيّة.

هذا الفكر -يتطبّع- غالبا ويدخل في دوائر المسكوت عنه أو المقبول بالواقع ولا يقف زحفه الفاسد إلا إذا ما عارضه ما يناسبه من فكر قويم،،، يتطبّع هذا الفكر كما هو الحال في كثير من بلاد العالم وبلادنا نموْذجا لذلك، يحصل له هذا التطبّع ويسهل استئناسه في -الفعل- الإجتماعي والسلوكات الجماعيّة والمفهوميّات العامّة أكثر إذا ما -تلقّفته- وسائل إعلام تتخذ من صنع الغباء شعارا وترضيةً لرأس المال الذي يشغّلها ويوظّفها ويقف وراءها توجيها واستثمارا قبيحا لا يهمّه إلاّ جشعه ونهمه للمادّة…

هذا الفكر الأسود هو نذير خراب المجتمعات خصوصا إذا ما باشر الواقع الأدبي الثقافي أو أدار السّياسة العامّة وما يتفرّع عنها من السياسات الإجتماعيّة والإقتصاديّة وغيرها إذ أنّه يجتثّ المجتمع عن أصوله بخلق التشكيك وزرع الإحباط وتنمية الإحساس بالنّقص تُجاه -الآخر-، وهو غالبا فكرا وصوليّا مصلحيّا ذاتيا لحملته أو فكرا للإيجار الخارجي.

وعليه أنّ كلّ إصلاح شامل يُراد به رفع المظالم وإرساء سبل للتنمية وخلق الثروة وتوزيعها بالعدل لابدّ أن يمرّ من -بوّابة- إصلاح الواقع الفكري وتطوير -العقليّة- سواء لدى العوامّ من المجتمع أو لدى مجاميع النّخب وتجريدها من الإنحراف الفكري والإغواء العقلي…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock