تدوينات تونسية

ليلة الهروب

بشير العبيدي
#رقصةُ_اليراع
كان اليوم يوم خميس. أنهيتُ دوامي في مكتبي جنوبي باريس، ولم أعمل يومها شيئا. كيف لي أن أعمل في ذلك الْيَوْم، وأخبار الرصاص الحيّ الذي يخرّز أجساد الشباب الثائر في تونس تصل إلى عمقي تباعا من كلّ المدن؟
كنتُ أعيش جسدا في باريس، لكنّ روحي كانت بمثابة بساط الريح السابح على تموجات تيارات الهواء العابر على القارات والمحيطات. تلاطمت في نفسي وتباينت وتمايلت وتطاولت كل المشاعر المتناقضة.
يا ربّ ! هل حان وقت الحساب؟ هل آن أوان الاستبداد ؟ هل تقرر مصير القاهرين ؟ هل استجيب لدعاء المكلومين ؟ هل جاء وقت القصاص من الظالمين؟ ما الذي يجري في تونس، هذا البلد الوديع العجيب الذي اجتمعت فيه تناقضات الجنّ والإنس ؟
لا أدري ماذا يحدث. الأخبار متناقضة. وصحافة أوروبا قليلة الاهتمام بهذا الموضوع، فأي معنى أن تنقل تلك الصحافة أخبار مظاهرات هنا، أو مظاهرات هناك، فهي ليست سوى أخبار عن طيش شبابي سيخبو سريعا في نظرها القصير القاصر، خاصة في بلد مثل تونس، الذي مدحه رؤساء فرنسا وقالوا عنه أنه أنموذج التنمية وحقوق الإنسان والحريّة!
رجعت إلى منزلي متوترا ومتأهبا بعد وقفة قمت بها في وسط باريس احتجاجا على قتل الشرطة للشباب الثائر. رجعت وفِي داخلي إحساس غريب بنهاية شيء ما. ما أن فرغت من الصلاة والدعاء حتى ارتميت على الحاكوم أقلّب عن آخر الأخبار، حتى علمت بخطاب للطاغية سيلقيه في الحين. تسمرت في مكاني أنتظر. ظهر الغراب فجأة وهو مرتبك، يتكلم لأول مرة باللهجة العامية، يقول : غلّطوني ! وأنا فهمتكم ! الآن فهمتنا؟ ألا لا كتب الله لك فهمًا بعد الْيَوْم ! أيقنت بسقوطه من حركات يديه المرتعشة، تلكما اليدين اللتين عذّبتا وقتلتا وقهرتا!
تبت يدا المستبد وتبّ ما أغنى عنه أزلامه وما كسب!
تركت القنوات وخرجت أمشي… لأن نفسي تحدثني عن شيء أكبر من ذلك بكثير. نفسي تقول لي : ستعود إلى تونس بعد تهجير قسري دام عشرين سنة ! نفسي تقول لي ستضم والديك وإخوتك وأخواتك وأترابك وأصحابك وجيرانك… نفسي تقول لي ستفرح قريبا !
ظنِّي يبشِرني وعقلي يكذبني وروحي تعذّبني ودمعي يعوّمني. يا ربّ متى ؟
عدتُ أدراجي إلى منزلي. شاهدت قنوات الطاغية فإذا برهط من المنافقين يظهرون. أحدهم يزعم أن ألوف التونسيين خرجوا في الشوارع للتصفيق لخطاب بن علي. ثم جاء ذلك المنافق بمنافقة تقول : سأقولها بالفغونسي لأن الفغونسي يعبّر خير (j’ai confiance en Ben ALI !!!) ومعناه بالعربي : لي الثقة في بن علي ! هذه جملة لا تستطيعين قولها بالعربي؟ صعبت عليك أن تقوليها بالعربي؟؟ لكن تلك الجملة كانت موجهة لما وراء البحار ! لم تكن جملة سهلة ! والفغونسي يعبّر خير عند هذه الفئة المنبتة التي أذاقت التونسيين الويلات !
قفلت القنوات، وصليت الصلوات ودعوت الدعوات. لم يكتحل جفني بنوم حتى ذهبت للعمل يوم الجمعة. ولم أعمل شيئا طوال ذلك الْيَوْم. كنت أتتقل بين المواقع والقنوات وأتابع الأخبار والإشاعات..
غادرتُ مكتبي عشية الجمعة بمجرّد وصول رسالة نصيّة إلى هاتفي، تستنفرني للخروج في مظاهرة احتجاج جديدة ضد قمع الشرطة للشعب التونسي، فاتجهت حالا صوب مكان التظاهر في محطة كورون في منطقة بالفيل، في الدائرة العشرين من باريس. هناك، وجدت جمعا من العرب يهتفون بسقوط الطاغية المجرم بن علي. وما هي إلا لحظات حتى اشتعل خبر كاشتعال النار في حذف الخريف. الخبر يقول : ابن علي هرب… ابن علي هرب !
هرب؟ أين هرب؟ ولماذا يهرب؟ نريده للمحاكمة ! لا لا ! لقد هرب إلى السعودية… ولماذا يهرب إلى السعودية بلد الحرمين الشريفين، وهو قد أمضى سنين حكمه في محاربة الشعب ودين الشعب ونهب الشعب؟
سرى في الجموع شعور بالنصر لم أشعر بمثله قط في حياتي ! في لحظة واحدة، هان كل الوقت والجهد والثمن من أجل اقتلاع رأس الاستبداد ! في لحظة ما، سكرنا بنشوة الانتصار مع ندماء خروجوا فجأة من تحت الأرض مع سقوط جدار الخوف ! سقط الخوف ! سقط الرعب ! سقط المستبد !
عدتُ إلى بيتي ولا أدري أي خمرة أسكرتني ! قبّلت زوجتي وأولادي وقفزت قفزات السرور حتى كاد رأسي أن يناطح سقف المنزل المرتفع. جلست وفِي يدي الحاكوم أغيّر به قنوات الأخبار من قناة إلى أخرى… نعم لقد هرب ! هرب المستبد !
نسيت النوم لليلة ثانية على التوالي. هل بقي للنوم طعم بعد الذي حصل في تونس؟ لقد ثار شعب عربي واقتلع حاكما مستبدا من كرسيّه الذي كان يلتصق به بصامولات معدنية، مكبوسة بمفاتيح لا توجد إلا في مصانع أوروبا وأمريكا، أو أن يقتلعه الشعب في هبّة واحدة متضامنة !
ثمّ مرّت ستّ سنوات كاملة، والمشهد لا يكاد يتغيّر :
تونس العميقة تريد طيّ صفحة الاستبداد… والدولة العميقة تريد طيّ صفحة الثّورة… لكنّ الجديد في الأمر هو أنّ تونس التاريخية لم تعد قابلة أبدا للتقهقر إلى الخلف. لم يعد ذلك ممكنا، بكل بساطة. إننا في معركة الوعي، والوعي كالطاعون : إنّه مُعْدٍ !!!
ابن علي هربْ !
هرب الرأسُ…
وبقي الذّنبْ !
ابن علي هربْ !
سقط الوهمُ…
وظهر الكذبْ !
ابن علي هربْ !
بقي الجهل…
تعانيه العربْ !
باريس، ربيع الأول 1438
كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock